“سيرة الشعر المعتق” الشاعر محمد بشير عتيق.. كل شيء حولنا ظمآن يهفو للحياة
كيف كان حال حي (أبوروف) في العام 1909م؟ قبل مائة وخمس سنوات، حين وُلِد لمُعلم اللغةِ العربية والقرآن الكريم السيِّد (بشير عتيق) ابناً ذكراً أطلق عليه اسم (محمد)، تيمُناً بالنبي الكريم، كعادة السودانيين.
ربما – لو كان (محمد) بيننا الآن، لأعيته الإجابة عن السؤال؟ إذ غادر شاطئ أبو روف برفقة أبيه إلى الدويم، التي نقل إليها وهو في الخامسة من عمره وهي سن لم تكن تسمح حينها بالالتحاق بالمدرسة، لكنه كان يذهب إليها بصحبة أبيه مستمعاً، فعاصر محمد أحمد محجوب وأحمد بشير العبادي.
الليلة في الكوة
لم يمكث الصبي كثيراً في الدويم، فهذا قدر أبناء الموظفين، ما إن يستقرون قليلاً حتى يرحلون مجدداً إلى منطقة أخرى.
ها هو الصبي الوسيم دقيق الملامح رقيقها، الآن في (الكوة)، وكأن الأقدار قيضت له أن ينتقل بين النيلين (الأزرق والأبيض)، ليُلهمانه – لاحقاً- القوافي المُترعات والأغنيات الباذخة.
الكوة كذلك كان مُستقراً (إلى حين)، عاماً واحداً فقط انفقه الصبي (محمد بشير عتيق) لكنه كان بحجم عقد من (الزمن الجميل)، حيث وضعته أقداره الرائعة زميلاً للتجاني الماحي والنصري حمزة، كما جعلت بيتهم قِبلة الشعراء والأدباء، أليس والده مدرساً للعربية وآدابها، أليس له مكتبة قل نظيرها في ذلك الزمان؟ أليس هو الابن الوحيد لوالده، لذلك كان عليه أن يخدم خُدّام الأدب والثقافة الذين في حضرة أبيه؟ أليس كل هذا وذاك يجعل الإنسان مُبدعاً؟
قلق دائم
في عشرينيات القرن المنصرم عاد الشاب محمد بشير عتيق إلى شاطئ أبي روف بصحبة والدته بعد رحيل أبيه، لكن قلقه الدائم وتوقه للسفر أخذه إلى مدينة الحديد والنار، فغادر إلى أتبرا ملتحقاً بمدرسة الصناعات، وتخرج فيها (برّاداً)، الأمر الذي أوجد له وظيفة في ذات المهنة بمصلحة السكة حديد، وظل رهين وظيفته تلك إلى أن تقاعد في العام 1963م.
ورغم بأس الحديد وصرامة من يشتغلون عليه، إلاّ أن (عتيق) كان مرهفاً، رقيقاً، حد أنه كان يحفظ عشرين ألف بيت شعر، قبل أن يبتدر نظمه بقصيدة ذائعة، فكانت أغنيته الأولى (يا أماني جار بي زماني) التي تغني بها مطرب من أبي عشر يُدعى (النعيم).
شاعر كل المدن
ربما جار زمان عتيق عليه، لكنه جاد عليه بالشعر أيضاً، ولأن مدينته أم درمان، كانت موئلاً للقريض، وموطناً لـ (الحقيبة)، تعرف بين ظهرانيها على ما لا يحصى من الشعراء والفنانين، فكان يعرض ما يكتب على الشاعر عمر البنا ويزور أبي صلاح في منزله طلباً لاستشارته، لكن عتيق لم يكتف بالمكوث في مسقط رأسه ولا التجوال بين منازل شعرائها ومبدعيها، بل تنقل بين مدن وأرياف كثيرة فزار كسلا، بورتسودان، مدني والقضارف، وقد عبر عن تلك المدن في الكثير من قصائده، فأصبح شاعر المدن كلها.
ما فيها كُلفة
واتسم عتيق بأسلوب شعري (فويق الحقيبة) قريب من الحداثة، وطرق به موضوعات جعلت بعضه وكأنه مسرح للكومديديا، “عيان سيادتك/ قاصد عيادتك/ ولازم إرادتك/ وصار مستجيرك/ وما ليهو غيرك/ وماذا يضيرك/ بي قلبو إلفة/ ولي روحو تلفا/ نص حبة سلفة/ ولو فيها كلفة/ آلامو تشفى/ وحرارتو تطف”.
أغنيات مترفة
يبدو أول مبلغ تقاضاه عتيق عن أغنيته (أرجوك يا نسيم) كبيراً جداً بمعايير ذلك الزمان، فــ (200) جنيه، تعني أن مؤشرات بورصة الشعر كانت أسهم عتيق الأعلى فيها. وربما هذا ما جعل الفنانين يتسابقون في الحصول على (بضاعته)، فغنى له كرومة أكثر من خمس وعشرين أغنية، أشهرها: يا ناعس الأجفان، أذكري أيام صفانا، هل تدري يا نعسان، أرجوك يا نسيم روح ليهو، ما بنسى ليلة كنا تايهين في سمر، ما اتأملت حسنك يا رشيق القد، في رونق الصبح البديع. وتغنى له عثمان حسين، أولاد شمبات وأولاد الموردة، عبد الحميد يوسف، رمضان حسن خضر وحتى كمال ترباس.
هبة الشعر
لا يتسع (سفر) – مهما عظم – لكتابة سيرة الشاعر الفذ، وما نحاول أن نفعله هو (حفل صغير)، نُضيئ فيه جانباً من حياة رجل وهب نفسه للأغنيات العظيمة التي ظل يرويها من قلبه ودمه إلى أن رحل عنا وهو قد تجاوز الثمانين من عمره، ظل يعطي خلالها بلا منِ ولا (طغيان).
اليوم التالي