الحركة ما شعبية
يأتي عليك حين من الدهر تنذر بعض وقته للتأمل، وبعض وقته لرصد الأحلام الضائعة، الأحلام الصغيرة والكبيرة، ويأتي عليك حيناً من الدهر يجعلك تحتفي بالمقولة القديمة (ما أحلى النوم لو استطاع الإنسان أن يختار أحلامة).
لا أحد إذن يختار أحلامه، لذلك لن يكون فعل النوم إلاّ واجباً لتنفيذ مهمة فسيولوجية وحياتية محددة، وبالطبع فلا أحد هنا ينام ملء جفنيه حتى ولو وفقه الله وظروفه الشخصية في اختيار منثورات من الأحلام تطوف بخياله أثناء النوم.
الآن، يمضي كل شيء هنا إلى شيء هناك في الجوار القريب، فما يحدث في جنوب السودان لم يكن حلم أحد، وإلاّ ما كان لأحد منهم أن يختار فرز عيشته في استفتاء طوعي، ليلغي نفسه في جحيم أججه الساسة من أجل التحكم في مقدرات الشعب المسكين، ساسة أنانيون، انتهازيون، وفاسدون، لا يمتلك أحدهم شعبية ولا كاريزما تؤهله ليدير بلداً (خالي الوفاض)، لا بنية تحتية جيدة، ولا مشروعات تنموية يبنى عليها، ولا نظام تعليمي محدد، فعدا النفط (الملعون) والثروات الكامنة التي تحتاج عقداً وطنياً قوياً وإرادة سياسية، وأيادي نظيفة حتى ينتفع بها الناس وترتقي بحياواتهم، لا يوجد هناك إلاّ لعنة السلطة.
هؤلاء الذين يديرون الحرب كلهم لا يمتلكون مثقال ذرة من كاريزما الراحل جون قرنق، لذلك فإنهم عندما يديرون هذه الحرب المعلونة ويسفكون دماء الأبرياء ويفرقون الأسر الجنوبية الكريمة والأطفال والنساء والشيوخ والعجزة في (القبل الأربع) إنما يظهرون عجزهم التام في تحقيق وطن ظل يرواد أحلام الجماهير المغلوب على أمرها، أحلام لم يحققها لهم الواقع، ولم يستطيعوا تحقيقها حتى في نومهم المتقطع والمتوتر.
وهكذا هي كل الحركات الثورية (التحررية) في أفريقيا، ترفع شعارات الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية وتدعي أنها تقاتل من أجلها سنيناً عدداً تزهق خلالها الأرواح وتباد الحياة، ثم ما إن يتحقق لهم ذلك حتى (يقبلون) على بعض، تصفيةً وإقصاءً وموتاً ودماً، والحركة الشعبية لتحرير السودان ليست استثناءً من ذلك، وقادتها الآن يقودون الجنوب كله إلى حتفه يتوسلون بالقبيلة إلى السلطة، بينما الحقيقة خلاف ذلك تماماً، هؤلاء الثوار ثوار الأمس أضحوا في (رمشة عين) مجرمي حرب وفاسدين وقتلة، لا يبالون بأن يموت كل سكان الجنوب في سبيل عرش جوبا، وأي عرش لو كانوا يعلمون!!
هؤلاء لم يعودوا حركة شعبية، بالمعايير الثورية (القرنقية)، هؤلاء عصابات تسفك الدماء وتحرق الحرث والنسل، عصابات ليس لها شعبية بين المواطنين الجنوبيين.
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي