منوعات
بعد تزايد حالات (الانتحار) مؤخراً.. عيادات الطب النفسي.. زيارات (ضرورية)!
حكاية من الواقع:
الطبيب النفسي والأستاذ المساعد بكلية الطب جامعة الرباط الوطني د.أنس بن عوف في مقال له يحكي قصة عن أم وابنتها دخلتا إلى عيادته، كانت الأم ترتدي عباءة سوداء تسترُ كاملَ بدنها، وبدأت تحكي عن ابنتها التي أحضرتها رغماً عنها لمقابلته في العيادة النفسية، والفتاة كانت صورة أخرى.. وقال: “لو لم أكن متأكداً أنني جزء من المشهد لظننت أنها خدعة (سينمائية) لشدة ما رأيت من التباين والتناقض”، مواصلاً: “كانت الفتاة في العشرين من عمرها أو دون ذلك بقليل، وكانت ترتدي بنطالاً ضيقاً و(بلوزة) مثله، وقد انحسرت أكمامها عن الساعدين، والشعر ليس عليه غطاء مصفّف على طراز غربي جداً من النوع الذي يصعب أن تجزم إن كان صُفّف بالفعل أم لا!.. جلست الفتاة أمامي باستهتار.. ورفعت إحدى ساقيها فوق الأخرى بلا مبالاة كأنما هي في القهوة على وشك أن تطلب (شيشة)، كانت تعلك اللبان بطريقة مجافية للأدب، وتتكلم من بين لسانها والعلكة، وهي تارة تعدل بطرف أصبعها وضع نظارتها (الموضة) إلى ما فوق أرنبة أنفها، وتارة تلاعب أطراف شعرها، وأحيانا تبدي ابتسامة عابثة غير مريحة”.
سلوك غير منضبط:
وتواصل الأم في الحكي عن سلوك ابنتها غير المنضبط في الفترة الأخيرة وميلها للخروج من البيت في أوقات غير مناسبة وبزيٍّ غير مناسب، على الرغم من أن هذا السلوك غريب على أسرتهم وعاداتهم وأخلاقهم، فالأسرة محافظة متدينة بصورة مميزة، بل الفتاة نفسها لم تكن على هذه الحال في السابق، ولم تسبق هذا التحول مقدمات من أي نوع، سألتُ الأم عن الأعراض الأخرى والتاريخ المرضي الكامل للحالة وأجريتُ الكشف النفسي المعتاد وتبيّن لي أن سلوك الفتاة هذا لم يكن إلا مظهراً من المظاهر المرضية لاضطراب المزاج ثنائي القطب، وهو اضطراب نفسي معروف يتميز بمجموعة من الأعراض والعلامات النفسية، التي منها ترك الاحتشام وعدم مراعاة القيود والضوابط الاجتماعية، بل الميل للانفلات عنها فيما يُعبّر عنه أحيانا بالجموح، وقد يكون من بين هذه القيود ضوابط دينية وشرعية، وقد ينظر البعض إلى هذه التصرفات باعتبارها انحرافاً أخلاقياً أو قلة أدب أو ما أشبه، بينما هي في الحقيقة مرض، أعني أن هذا الجموح قد يكون عرضاً لمرض نفسي يصيب بعض الناس، لا أن كل من يظهر شيئاً من عدم الاحتشام فهو مريض، وإنما يحتمل أن يكون عرضاً مرضياً يكون التأكد منه بمعاينة المريض ومعرفة التاريخ المرضي وما إذا كانت هناك أعراض أخرى مصاحبة وتطبيق المعايير التشخيصية، وهذا ما لا ينتبه إليه غير المختصين في الغالب، ولهذا لا يرون من مثل هذه التصرفات إلا أنها قلة أدب تحتاج إلى التأديب، ووقاحة ينقصها الردع، وجريمة تستحق العقاب، وهذا ما كان من والد تلك الفتاة الذي هدد وتوعد، ثم عاقب وضرب، ثم قيدها وحبسها في البيت، وقد رأيت على ساعدي الفتاة آثار الضرب والتقييد، وكل ذلك لم يجد معها نفعاً، وكأن الفتاة لم تسمع ولم تحس.!.. لماذا؟ لأن الأمر كان مرضاً ولم يكن مجرد سلوك منحرف، وأعني بالمرض هنا ما يعنيه الأطباء لا ما يعنيه المربون والمصلحون، أعني بالمرض هنا ما يقابل الصحة لا ما يقابل الاستقامة، أعني المرض باستعماله الحقيقي لا الاستعمال المجازي الذي يعني المرض الخُلُقي والاجتماعي.
بين المرض والسلوك:
ويواصل د.أنس: (هذا المرض كان نفسياً، ولكن البعض للأسف عندما يسمع عن المرض النفسي ينصرف ذهنه إلى تلك المعاني المجازية، بينما هو مرض حقيقي تماماً، وأريد أن نفرق في المعالجة بين ما كان مجرد سلوك خاطئ أو إساءة أدب وبين ما هو عرضٌ مرضيّ، فالأول يحتاج إلى النصح والتهذيب والتربية والتأنيب، بينما الثاني يحتاج إلى الإسراع به إلى الطبيب النفسي الذي يصف له العلاج الدوائي المناسب. الأول نعاتبه ونلومه بينما الثاني نشفق عليه ونعذره!.. وبين الاثنين فرق عظيم)، ويختم حديثهُ قائلًا: (نحن لا ندّعي كأطباء نفسيين القدرة على إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس، فهناك متخصصون كالتربويين والدعاة يتعاملون مع الأخلاق وتهذيبها وتزكيتها بحكم التخصص، ولكن هناك من الأعراض المرضية ما يشتبه بالانحرافات الخلقية وهنا قد لا يجدي نفعا النصح ولا التأنيب ولا وسائل الثواب والعقاب وإنما يحتاج المريض إلى دواء يتمثل في العقاقير الطبية التي تصحح الخلل الداخلي الذي نتج عنه المرض بكل ما فيه من أعراض، هذا الخلل يحدث في كيمياء الدماغ التي تؤثر في نواحٍ عدة من تفكير الإنسان وسلوكه ووجدانه، ولهذا يتسبب الخلل في تغير ظاهري يطرأ على هذه النواحي أو بعضها، ويحتاج تصحيحه إلى دواء كيميائي مهمته الحفاظ على اتزان كيمياء الدماغ حتى تعود الأمور إلى نصابها)، ويختتم: (بقي أن أقول إن الفتاة التي ذكرت قصتها والتي أحضرها أهلها إلى للعلاج بعد أعياهم التعامل معها، تناولت الدواء الذي وصفته وعادت للعيادة في الوقت الذي حددته للمقابلة، ولكنها لم تعد في نفس الهيئة بعد أن شفاها الله عز وجل بسبب الدواء.. لقد عادت وهي ترتدي النقاب).
خطورة الاكتئاب:
وعن الاكتئاب يقول د.أنس إن كثيراً من الناس يظنون أن مرض الاكتئاب النفسي لا يصيب المؤمنين، وإذا أصيب أحد الناس بهذا المرض فذلك لضعف إيمانه وبعده عن الله، وهذا الظن خاطئ، وهو يهدم – ربما بحسن نية – جهوداً ضخمة يبذلها المخلصون من المنتمين إلى مجال الصحة النفسية من أجل التوعية وتوضيح بعض المفاهيم المبسطة والمهمة جداً، فالاكتئاب مرض مثله مثل الملاريا والسكري والجلوكوما وتضخم البروستاتا…إلخ. وهو ليس تلك المشاعر العارضة من الحزن والتعاسة العابرة بسبب مصيبة تنزل.. هذه تفاعلات النفس البشرية التي تمر على الناس جميعاً فيتفاوتون فيها.. وليس الاكتئاب (المرض) هو فقط صورة مضاعفة من الحزن، بل هو اختلال وظيفي في كيمياء المخ.. تماماً كما يحدث في السُّكَّري من اختلال وظيفي في كيمياء البنكرياس.. الفرق الوحيد أن هذا بنكرياس وذاك مخ ولهذا نتج عن كلٍ منهما أعراض مختلفة، وبناءً على ذلك فإن من الخطأ الشنيع أن نتصور أن الإصابة بمرض الاكتئاب تدل على نقص الدين أو ضعف الإيمان.
مفاهيم خاطئة:
ويواصل د.أنس: (مرض الاكتئاب يمكن أن يصيب الجميع بلا استثناء المؤمن والكافر، الطائع والعاصي.. لماذا؟.. لأنه كالسكري سواءً بسواء.. هل يرضى أحد لو قلنا إن الإصابة بالسكري تدل على ضعف الإيمان.. أو أن الملاريا سببها قلة الدين.. أو إن هناك ارتباطاً بين الجلوكوما والبعد عن الله..إلخ.. والشواهد على ذلك كثيرة.. بخلاف طبيعة المرض التي أصبحت واضحة للمختصين.. فإن أعداد المرضى التي لا تنتهي، وتشهد الإحصائيات في الدول الإسلامية.. بل كتب التاريخ والتراجم تشهد بذكر أعداد كبيرة من مشاهير المسلمين بل منهم العلماء والعباد أصيبوا بأنواع من المرض النفسي.. لم تكن هناك معايير دقيقة للتشخيص ولا كان هناك أطباء نفسيون ولكن المؤرخين لاحظوا بذكاء تلك التغيرات التي طرأت عليهم فوصفوها كرأي العين، ووجه الشناعة في أن يقال إن المرض النفسي أو الاكتئاب قرين ضعف الإيمان وأن من قوّى إيمانه لا يصيبه الاكتئاب، وهذا يؤدي – من جملة ما يؤدي إليه – إلى مضاعفة العبء على مريض الاكتئاب فتصبح معاناته من المرض سهما ومعاناته من ظنه أن هذا ضعف إيمان سهما آخر، ويؤدي هذا الفهم الخاطئ إلى أن يتجه مريض الاكتئاب أول ما يتجه إلى من يتوسم فيه العلم والدين يستنصحه، فيرشده إلى كل شيء إلا طلب المساعدة الطبية.. فيستفحل الداء.. ويحاول المريض إخفاء معاناته وكتمها حتى لا يشار إليه بضعف الإيمان وقلة الدين، ويستمر الحال ويتفاقم المرض حتى يستيقظ الأهل ذات صباح ليجدوا ابنهم متدليا من أنشوطة من سقف البيت.. فلا يكادون يصدقون أن ابنهم المسلم المصلي- مات منتحرا!
أعداد المنتحرين:
وللذين لا يتصورون حجم القضية يقول د.أنس إن أعداد المنتحرين في السودان (مثلاً) أكبر مما يُتَخَيَّل.. وأعداد من يحاولون الانتحار ويفشلون أضعاف أضعاف ذلك.. وقد رأينا منهم طلاب الجامعات وخريجيها.. والأزواج والزوجات.. والأبناء والأمهات.. والمتعلمين والأميين.. وسكان البوادي والمدن.. والصغار والكبار.. بل إن منهم من ينسبون إلى الصلاح والتدين والدعوة!.. وكل ذلك كان ممكنا تفاديه – بإذن الله- لو علم هؤلاء ومن حولهم أن هذا مرض وأنه قابل للعلاج بما هدى الله إليه عباده من أدوية حسية نافعة هي تلك العقاقير الطبية التي يسيء الظن بها كثير من الناس بما في ذلك بعض الفضلاء، حين يصفونها بأنها تستخلص من المخدرات، ومغتالات العقول، ومثل هذا الظن يجعل الدواء داءً.. والشفاء مرضاً.. ويصوِّر العلاجات الطبية النفسية كأنها شأن أمم أخرى غير الأمة المسلمة.. التي ما دامت تقرأ الأذكار (ولا أقلِّل من شأنها) فهي ليست بحاجة إلى العقاقير الطبية ولا الأبحاث العلمية والدراسات التجريبية ولا المعامل ولا الطب ولا الصيدلة، ليس هذا هو ما جاء به الإسلام قطعاً. ويختم د.أنس حديثهُ قائلاً: (لا تظلموا إخوانكم المبتلَين بالاكتئاب ولا تجنوا عليهم، بل أعينوهم على التداوي بكل ما هو مباح، وليعلم كل منا أن البلاء إن تخطاه إلى غيره فربما تخطى غيره إليه، فليأتِ إلى الناس الذين يحب أن يأتي إليهم).
صحيفة السوداني
خ.ي