تحقيق (من ضيع السودان.. عشر مخازي سودانية)
اخترت لكم (عشر مخازي سودانية).. من تاريخنا تكشف عورة تفكيرنا التي أودت بنا إلى هذا القاع السحيق..
محاكمة للتاريخ لا تستهدف القبض على الجاني فحسب.. بل ولمحاسبة أجيال ومفاهيم لا تزال تقبض على خناق البلاد ومصائرها..
المقدمة الثابتة:
وطن مترف بثرواته ما ظهر منها وما بطن.. وبعد حوالي (60) عاماً من الاستقلال لا يزال يقبع في ذيل الأمم.. من فعل هذا به؟ من الجاني الذي حرم الشعب من ثرواته وخيراته وأبدلها الذل والحرمان؟ محاكمة تاريخنا المعاصر هي المدخل لإصلاح الحال وبناء مستقبل معافى من مخازي الماضي.
عثمان ميرغني
مقدمة الحلقة (1)
احتل المستعمر بلادنا في العام 1898.. وخرج منها بكامل طوعه واختياره في 1956.. أي فترة (58) عاماً من الاستـ(ع)ـمار الأجنبي أعقبتها حتى اليوم فترة (59) عاماً من الاستـ(د)ـمار الوطني. تساوت فترة الاستعمار الأجنبي مع فترة الاستدمار الوطني و بقدر ما عمَّر المستعمر الأجنبي بلادنا دمَّر المستدمر الوطني كل ما ورثه من مؤسسات..
لماذا عشر مخازي.. وليس مائة؟؟
سلسلة حلقات هذا التحقيق اجتهدت كثيراً في حشدها بالمعلومات والأدلة والبراهين التي تقبض على الجاني متلبساً بفعلته. حتى نحاكم تاريخنا بما ينبغي من المحاسبة منعاً لتكرار الخطايا ( فهي ليست مجرد أخطاء).
اخترت لكم (عشر مخازي سودانية).. من تاريخنا تكشف عورة تفكيرنا التي أودت بنا إلى هذا القاع السحيق.. صحيح قد يسأل سائل ولماذا عشر؟ وليس مائة أو ألفاً، والإجابة سهلة .. هي نموذج يوضح كيف ضاع السودان.. لأنها مخازي (نموذجية) كل واحد منها يصلح موضوعاً لتحقيق كامل. مخازي لا يمكن وصفها بأنها مجرد قرارات أو سياسات أو أحداث. بل هي صورة مقطعية للرأس السوداني تكشف كيف نفكر وندير الشأن العام في بلادنا. ولو استمر الحال هكذا فسيستمر البؤس والشقاء مهما تبدلت العهود السياسية.
هذه (المخازي العشر) يربطها خيط واحد.. هو (منهج التفكير).. تتقلب الحكومات وتتصارع العهود السياسية والمحتوى واحد لأنهم جميعًا يفكرون بعقلية واحدة رغم أنف الشعارات السياسية المتباينة حد التخاصم.
في التاسعة صباح يوم واحد واحد..!!
في صبيحة يوم الأحد الفاتح من شهر يناير عام 1956 أشرقت شمس السودان المستقل. في تمام الساعة التاسعة صباحاً اختفى آخر رمز للسيادة الأجنبية بنزول علم دولتي الاستعمار وصعود علم السودان مكانهما. وكان الشهود جماهير غفيرة من المجتمع السوداني خالطت دموع الفرح في مآقيها دموع الخوف من المستقبل المجهول. رفع العلم الزعيم إسماعيل الأزهري بمشاركة زعيم المعارضة محمد أحمد المحجوب.. بينما السيدان الكبيران .. مولانا السيد علي الميرغني زعيم الطريقة الختمية والسيد عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار يشرفان مشهد تدشين السيادة الوطنية على التراب السوداني.
منذ صرخة الميلاد تلك أسفر في السودان وجه آخر.. أكثر قساوة من وجه المستعمر الأجنبي.. وجه وطني فاقد للبصيرة الاستراتيجية.. فرط في أمانة قيادة وإدارة أكبر بلد إفريقي وعربي متخم بالثروات الباطنة والظاهرة.
وجه هو بالضبط نقيض كل ما قاله السيد إسماعيل الأزهري في كلمته بمناسبة الاستقلال:
قال الأزهري في ذلك اليوم :
(إذا انتهى بهذا اليوم واجبنا في كفاحنا التحريري فقد بدأ واجبنا في حماية الاستقلال وصيانة الحرية وبناء نهضتنا الشاملة التي تستهدف خير الأمة ورفعة شأنها ولا سبيل إلى ذلك إلا بنسيان الماضي وطرح المخاوف وعدم الثقة وأن نُقبل على هذا الواجب الجسيم أخوة متعاونين وبنياناً مرصوصاً يشد بعضه بعضاً ، وأن نواجه المستقبل كأبناء أمة واحدة متماسكة قوية .)
كل مفردات خطاب الأزهري هي وقائع إدانة لأجيال كاملة انحدرت منذ يوم الاستقلال حتى يومنا هذا.
إدمان الفشل..!!
من 1956 وحتى يوم كتابة هذا التحقيق الصحفي في نوفمبر 2014.. :
تبادلت حكم السودان (9) عهود سياسية.. هي الحكم الحزبي الأول ثم حكم الرئيس عبود ثم الحكم الحزبي الثاني بعد ثورة أكتوبر 1964 ثم حكم الرئيس جعفر محمد النميري الأول ثم حكم انقلاب هاشم العطا لثلاثة أيام ثم عودة حكم الرئيس النميري ثم حكم المشير سوار الذهب الانتقالي ثم الحكم الحزبي الثالث- ثم حكم الإنقاذ .. حتى يومنا هذا.
كل هذه الحكومات تبادلتها غالبية ألوان الطيف السوداني الحزبي. كل الأحزاب جربت حظها في حكم السودان، اختلفت في فكرها وأشخاصها واتفقت في سوء إدارتها للبلاد.
مقارنة.. حال بحال..!!
ولقياس مدى التدمير المنهجي المتعمد الذي تعرض له الشعب السوداني دعني ألتقط مثالاً واحداً لدولة كانت أدنى من السودان كثيراً في مستواها المدني والحضري والدولي.. ثم طفرت فوق السودان وصارت كوكباً ينظر إليها السودان من أسفل. دولة كوريا الجنوبية.. في العاصمة سيول أقيم متحف ميداني كبير يعكس الحياة في كوريا خلال حقب الخمسينات والستينات.. من يزوره تكاد أعينه تدمع من شظف الحال وقساوة المشهد.. شعب فقير مدقع ليس له موارد ولا أمل له في مستقبل مع شح حاله. وفي ذات الوقت الذي كان فيه السودان يتمتع بموارد أفضل وأكبر ووضع أحسن كثيراً.. كان شعب السودان لشعب كوريا آنذاك.. كشعب كوريا لشعب السودان اليوم.. لكن كوريا الجنوبية تحركت إلى الأمام مع عجلة الزمن والتاريخ.. والسودان تحرك إلى الخلف ضد عجلة الزمن والتاريخ.. إلى أن بلغنا دركنا الأسفل اليوم في ذات الوقت الذي باتت فيه كوريا الجنوبية دولة صناعية تصنع من الدبوس إلى الصاروخ.
كشف ابتدائي للخسائر:
خلال الفترة من خروج آخر جندي بريطاني من السودان حتى اليوم (2014):
فقد السودان ثلث أرضه وخمس شعبه بانفصال جنوب السودان في 9 يوليو 2011.
أكثر من مليوني قتيل في الحرب الأهلية في الجنوب ثم دارفور ثم النيل الأزرق وجنوب كردفان.
أكثر من خمسة ملايين مشرد ونازح بسبب نفس الحروب.
تضعضعت الروابط الاجتماعية والتماسك الوطني تحت وطأة حمى القبلية والجهوية التي ترعاها مؤسسات الدولة السودانية لصالح (التمكين السياسي).
ومع كل هذه الكوارث والأزمات تحول الشعب السوداني إلى أكبر متلقٍ للإغاثات والمساعدات الإنسانية.
ورغم خروج آخر جندي مستعمر في 1956 إلا أن أكثر من عشرين ألف جندي أجنبي استوردتهم بعد ذلك محن البلاد المستمرة، نصفهم في قوات حفظ السلام (يونامس) مع جنوب السودان قبل الانفصال والنصف الآخر في قوات (يوناميد) الدولية في دارفور إضافة للقوات الأثيوبية في منطقة (أبيي).
لكن السوء والانهيار والتقهقر لم يتوقف عند حد السياسة والحروب والاقتصاد، بل تعداه حتى إلى قطاعات أخرى مثل الرياضة. منتخب السودان القومي انتزع كأس الأمم الإفريقية في العام 1970 ونجح السودان في تنظيم الدورة في مدينتي الخرطوم و ودمدني. ولكن بالكاد نجح بعد ذلك المنتخب السوداني في التسلل إلى التصفيات النهائية لذات البطولة. وجاء اليوم الذي أصبح فيه مجرد الحصول على كأس (سيكافا) انجاز واعجاز وطني يستحق الأوسمة.
وانطوت أزهر أجيال الفن السوداني مع انطواء السنوات والحقب السياسية حتى وصلنا إلى أدنى مستويات الفاقة الإبداعية كما هو حالنا اليوم.
وواجه السودان لأول مرة في تاريخه موجات هجرية جماعية كاسحة. في كل الأعمار لكل التخصصات في كل المجالات لكل الدول بما فيها إسرائيل التي يحبذ بعض الشباب التسلل إليها عبر سياج الأسلاك الشائكة المكهربة ووسط زخات الرصاص هرباً إلى الأَمَرِ من الأَمَرِ منه.
محرقة الفقر المدقع بدأت تشوي وتصهر أخلاق المجتمع السوداني، وظهرت التحولات الكبيرة من خلال التفكك الأسري الهائل الذي ترصده يومياً مئات العرائض في محاكم الأسرة حيث كادت نسبة الطلاق تقارع نسبة الزواج. وهذا التحول الأخلاقي والاجتماعي هو أخطر ما يواجهه المجتمع والدولة السودانية من كوارث.. ففي المشهد الإفريقي دول تعرضت لمثل هذا المتغير فتبدلت أخلاق وسلوك شعوبها وباتت أقرب إلى الغابة المكتظة بالوحوش والحيوانات التي تخطت كل مدارج العيب فارتفعت فيها معدلات الجريمة والسلوك الانحرافي الجماعي على نطاق المجتمع.
من ضيع السودان؟
سؤال حتمي لابد من الإجابة عليه.. في سبيل إصلاح الحال. محاكمة للتاريخ لا تستهدف القبض على الجاني فحسب.. بل ولمحاسبة أجيال ومفاهيم لا تزال تقبض على خناق البلاد ومصائرها..
نواصل غداً أول المخازي العشر ..
في الحلقة الثانية بإذن الله..
التيار السودانية
والله انتهى المنطق بعد هذا المنطق ولم يبقى من الحقيقة شيي يستكمل .