لندن المصغرة: بهدوء يقابلك رجال الأمن والموظفين في مطار (كينياتا) الدولي.. أنظمة وإجراءات على طراز عالمي
تعجز الحروف تماما عن إيجاد كلمة أو مدخل للمقارنة بين تلك الصحيفة وصحف الخرطوم من حيث الإمكانيات، يطبق الكينيون النظام الغربي حسب ما يقولون، فالصحف هناك كلها تطبع على “التابلويت”، أكثر من ثلاثمائة صحفي وموظف يعملون في تلك المؤسسة كما يقول مدير التحرير.. وإن كان مضمون ما نكتبه في صحفنا لا يقل أهمية عما تكتبه تلك الصحف.. لا يقتصر الفرق ومدى التقدم في الصحف أو المجال الإعلامي فقط، فنيروبي أو لندن الصغيرة حسب ما يسميها الخواجات مدينة ذات طابع وأسلوب إنجليزي في كل شيء سوى الإنسان الأفريقي، وحتى الأخير هذا يسير بذات الخطى الغربية.
التشابه بين الكثير من المدن الأفريقية هي السمة الملاحظة بوضوح، من حيث المشتركات والروابط.. مساء الاثنين المنصرم دخلنا مدينة نيروبي وهي على وشك الخلود إلى النوم، كالعادة الأجواء باردة، الشوارع النظيفة تلملم بقايا أمطار هطلت للتو، بهدوء يقابلك رجال الأمن والموظفين في مطار “كينياتا” الدولي، مثله والمطارات الكبيرة أنظمة وإجراءات على طراز عالمي، الكل يعمل بنظام، لا صعوبات هناك، في الخارج ينتصب سائقو التاكسي وهم يحملون لافتات تبين أسماء الأماكن والفنادق والشوارع، إن كنت قادما جديدا إلى نيروبي فما عليك إلا أن تشير إلى أحدهم لتجد نفسك في مقصدك المطلوب.
ثمة صعوبات قد تواجه الوافدين الجدد سيما القادمين من البلاد العربية أو السودان قد لا يكون سببها اللغة فالكينيون يتحدثون السواحلي إلى جانب الإنجليزية لكونها اللغة الرسمية لهؤلاء الناس، ولكن السير في الشارع العام هو الآخر يظل مشكلة، لجهة أن كينيا تسير بنظام شمال الطريق، السيارات هناك مقلوبة بالنسبة لنا نحن السودانيين، عجلة القيادة باليمين، ذاك هو النظام الغربي، ففي وقت ليس بالقريب كانت الخرطوم تمضي في ذات الاتجاه، لكون سياراتها مقلوبة والشوارع كذلك.
زيارة واحدة لنيروبي تجعلك واحدا من مواطنيها دون عناء بسهولة يمكنك أن تركب المواصلات العاصمة، عندما أطلق عليها “الخواجة” اسم لندن الصغيرة فإن الأمر لا يبدو من فراغ، تصميم المباني هناك يشابه إلى حد كبير مدينة لندن، والضباب وحده هو الذي تفتقده المدينة الأفريقية تلك.
كل الطرقات تكسوها الخضرة الدائمة، مثلما تضع الخرطوم هنا الميادين الفسيحة داخل أحيائها لزوم التنظيم لكونها تعطي قدرا من الجمال، تزرع نيروبي الأشجار بكثافة في أزقتها وشوارعها وميادينها، فالبيئة تأتي في قمة أولويات المسؤولين في كينيا، الشوارع ليست فسيحة إلا الرئيسة منها ولكنها كافية لأن تسع كل السيارات المارة عبرها، لا وجود للسيارات على جنبات الطريق.. إذ لا وقوف بالخطأ.
إذا دخلت نيروبي تظن أن المدينة خالية من السيارات سيما عندما يسدل الليل ستاره، فهناك يمنع إيقافها على جنبات الطرق، كل البيوت على الأقل مصممة مع وجود (باركنغ) بداخلها..
الوجود الأجنبي في نيروبي كبير سيما الخواجات وبعض الآسيويين، هي مدينة تشبه طقوسهم وتلبي حاجاتهم للترفيه والسياحة.
رغم الجمال الصارخ الذي تتسم به نيروبي وهو ما يميزها إلا أن المدينة لا زالت تعاني من الأمن، ليلا وعندما تقترب عقارب الساعة من العاشرة مساء وفي بعض المناطق من التاسعة مساء فإن الشوارع تفتقد إلى المار، لا أحد يخرج في تلك الأوقات، إلا إذا كان تملك سيارة خاصة ومع ذلك يمضي بحذر، نيروبي تحتضن في داخلها عصابات الإجرام المنظم، وهي تشتهر بذلك.
كثيرة هي الوصايا التي تحذرك من المجازفة والتسكع ليلا في شوارع المدينة المضيئة، يمكنك أن تسمع روايات متعددة عن وقائع سرقة منظمة تستخدم أسلوب قد لا يوجد إلا في عالم أفلام الآكشن، عادي جدا أن تمتطي سيارة مواصلات عامة بغرض الذهاب إلى منزلك فيشهر أحدهم سلاحه في وجه ركاب سيارة النقل، فتسلم كل ما تملك من نقود..
تلك حالات قد لا تتكرر كثيرا، يقول الكينيون إن المدينة بدأت تستعيد حيويتها رويدا رويدا، ولكن للبعض تفسير آخر ينظرون من خلاله إلى تلك الحالة من منظور تحليلي تفسيري لواقع المجتمع هناك.. لا يمكنك أن تدخل مكانا عاما للتسوق دون أن تخضع للتفتيش الدقيق من قبل أجهزة الأمن والحراسة، وكذا الفنادق والمطارات.. كل ذلك يبدو مبررا بالنظر إلى حادثة احتجاز الرهائن في أحد مولات التسوق الكبيرة بنيروبي في العام الماضي، وهي حادثة تبين أن كينيا تعاني من تهديد الإرهاب المستمر.. لكن الغريب في الأمر رغم ذلك إلا أن البلد لا زال جاذبا لذوي البشرة البيضاء.
في استمارة طلب الفيزا عند السفارة الكينية الكائنة بشارع الستين في الخرطوم، تجد سؤالا يطلب منك التوضيح إن كنت قد ذهبت من قبل إلى نيروبي وعدت إلى بلدك أو هل ستعود إلى بلدك إذا زرت نيروبي؟، رغم غرابة السؤال إلا أنه واضح وشفاف، فنيروبي ربما هي المدينة الأولي في أفريقيا التي تعتبر مخرجا للكثير من الأفارقة الذين يبحثون عن النجاة ويمارسون الهروب من جحيم أنظمة الحكم في بلدانهم، بلد مفتوح على مصراعيه، يحتضن الكثير من المعارضين وحركات التحرر في أفريقيا، وعلى رأسها السودان، فنيروبي مثل كمبالاة تضم في جوانحها بعض الساخطين على نظام الخرطوم والناشطين في حقوق الإنسان، عدد السودانيين هناك ليس بالقليل ولكنهم ليسوا كمن في أديس أبابا العاصمة الإثيوبية.
الحياة في نيروبي تبدو مكلفة سميا الإقامة، فالفنادق والشقق التي تقع تحت دائرة الأمن لا يمكنك أن تقيم فيها إلا بالدولار، العملة الكينية تعاني الاستقرار، فالدولار الواحد يساوي تقريبا أكثر من ثمانين “شلن” كيني، لكن السوق الكيني من حيث الأسعار ليس صعبا فبإمكانك أن تشتري وتبيع ببعض الدريهمات.. قال أحد السودانيين المقيمين في نيروبي إن تكلفة الإقامة في الشقة ذات الغرفتين قد تبلغ (8) آلاف جنيه سوداني، وهو أمر يصعب على الكثيرين تحقيقه.
عندما تبتعد قليلا عن مركز المدينة يبدو لك أن مظهر الأشياء ليس كجوهرها، فأطراف نيروبي تعج بالفوضى، نسبة عالية من الفقر تعاني منها المجتمعات هناك.. أسواق عادية وباعة متجولون، القمامة والمقتنيات المستعملة لديها أسواق قائمة بذاتها، حركة المال في يد فئات قليلة، شركات ضخمة هي التي تتحكم في الحياة، على رأسها شركة سفاري تلك المؤسسة العملاقة التي تسيطر على كل شيء في سوق الملابس، الأحذية، الاتصالات، الطعام، الإعلام، الشاي وفيها كلها ستجد علامة سفاري المميزة، يقول أحد الصحافيين إن الشركة الكبيرة تطبع وتوزع واحدة من أكبر الصحف مجانا.
آدم محمد أحمد:صحيفة اليوم التالي
ي.ع