تحقيقات وتقارير
الأطباء الشباب.. بين مطرقة الانتقاد وسندان الهجرة
* طبيب امتياز : الأطباء الذين تنتقدونهم يتناولون افطارهم من مالهم كـ(شيرنق)
* طبيبة: شئنا أم أبينا فأطباء الامتياز هم الأغلبية في المستشفيات الحكومية والتعليمية
بقرية نائية وتحت ظل شجرة (نيم) وريفة كان مصطفى الشهير بـ(بوكَر) يشكو بثه للحضور من الحال الذي آلت إليه (المشافي)، بعد (تسونامي) الهجرة الذي ضرب بلادنا بلا رحمة، وجعل جُل الكفاءات أن لم نقُل كلها في عداد المغتربين. قال (بوكر) : (المستشفيات عِدْمَت الدكاترة إلا شوية شُفَّع يقصد الاطباء الشباب-المريض لو شافهم بِغيِر رايو من العلاج وبِقْبَل بالمرض). (بوكر) عندما أباح برأيه كان يعلم بوجود طبيب شاب اسمه محمد علي، وبالطبع فالدكتور لم يعجبه كلام الرَّجُل فردَّ بأدب ممزوج بـ(زعل) واضح: ثقْ يا عم أن الدكاترة (الشُّفَع) الما راضي بيهم ديل هُمْ زاتهم ما راضيانين بيكم، بس بكمِّلوا في اجراءات سفرهم يعني بعد شوية حا تمشي المستشفيات وما تلقى إلا الحيطان جمع حيطة).
عامل الثقة
من القصة الحقيقية الواردة في المُقدِّمة يتضح لنا أن (أمر الصحة) في بلادنا التي تكالبت عليها العِلل من كل حدبٍ وصوب، فهى مُصاب من جهتين الأولى عدم رضا كثير من المرضى وأهليهم بفراغ المستشفيات من كبار الاطباء (الخبرات)، أما الجهة الثانية فهى أن الأطباء الشباب (امتياز وعموميين) الذين ينتقدهم البعض هُمْ أنفسهم لا يفصل بين الهجرة إلا تكملة اجراءاتها أى اجراءات الهجرة.
وتقول المواطنة (إحسان) لـ(السوداني) : بصراحة انا لا أثق في صغار الأطباء لأنهم يفتقدون للخبرة بدءاً بتقني المختبر الذي يقوم بالتحاليل والفحوصات، وحتى الصيدلي قليل الخبرة، وذلك لأنني اعتدت التعامل مع الإستشاريين وكبار الاختصاصيين وأصحاب الخبرة في الكادر الطبي.
وتوافقها في الرأي خريجة اكتفت بذكر الاسم لها (رهف) حيث قالت لـ(السوداني): إنها لزمت فراش المرض شهورا عديدة بسبب خطأ في التحليل والفحوصات، والمصيبة التي اكتشفتها أن من قامت بعمل الفحوصات لي طالبة ما زالت تدرس بإحدى كليات المختبرات الطبية ولم تنل شهادتها بعد.
ظلم الحسن والحسين
معظم من تحدثوا الينا من المواطنين ابدوا تخوفهم من هجرة كبار الاطباء والاستعاضة عنهم باطباء الامتياز وغيرهم من حديثي التجربة، لكن يبقى السؤال الاساسي هل يعمل هؤلاء الاطباء الذين ينتقدهم الكثيرون في ظل ظروف جيدة تحفزهم على الابداع؟ د. محمد حسين أحمد اجاب في حديثه لـ(السوداني) بالنفى واضاف: إن الطبيب يتفاجأ بعد التخرج بـ(6) أشهر الى سنة (فترة عطالة)، أما في فترة الامتياز فالمرتب ما بين(500_800) جنيه وبعد سنة الامتياز لن يكون لديك مرتب وستؤدي بعدها الخدمة الوطنية وهي مأساة للأطباء والرجال تحديدًا وهذا بالنسبة لتوزيعهم . هذا إضافة إلى أن بيئة العمل سيئة جدًا في المستشفيات الحكومية، حيث لا توجد أي إمكانيات ومعظم من يأتيها يكون تحت خط الفقر بمراحل، لدرجة أن الأطباء في النبطشية لا يتناولون إفطارهم يدفعون من مالهم (شيرنق) للمرضى وفحوصاتهم وأصبح هذا روتينا ثابتا. فحتى الملفات التي تعطى للمريض صارت بقروش. وهنا كطبيب عمومي، أو اختصاصي أقصى ما يمكن أن أصل له في مرتبي مليون ونص. ويضيف بحدة: راتب العمومي في السعودية يساوي راتب العمومي هنا 15 مرة، وراتب الاختصاصي هناك يعادل مرتب زميله هنا 30 مرة. وقال في السابق كان المرء يصبر على أساس وجود منحة للتخصص وحاليًا المنح متوقفة. والتخصص الآن يكلف ما لا يقل عن 30 مليون جنيه.
وبالطبع يمكن للطبيب يقبل بالعمل هنا لو وجد قليلا من التقييم من ناحية إنسانية حتى ولو من قبل المجتمع لكان هناك دافع للبقاء لكن الطبيب هنا غير مقيم، هناك حرب ضد الأطباء بصورة عامة لها علاقة بإضطراب النواب في 2010، والتي كانت بها مطالب منها: إصلاح بيئة العمل/ العلاج المجاني/أوضاع الأطباء. وللأسف بعدها صارت حملة منظمة لتضخيم أخطاء الأطباء، وصار الأطباء والطبيبات يضربون في الحوادث من قبل المرافقين لأسباب لا علاقة لهم بها، فأنا كطبيب في النهاية مهمتي ليست أكثر من تشخيص الحالة وكتابة العلاج، لكن تجد طبيبا يضرب لعدم وجود الدواء في الصيدلية..! على الناس أن تفرق بين الأخطاء الإدارية والطبية.
الأغلبية (الميكانيكية)
إذاً فبين هجرة الاطباء القدامى وعدم ثقة البعض في الاطباء الجدد يتجه أمر صحة المواطن في بلادنا الى مصير لا يعلمه إلا الله. وتقول لـ(السوداني) طبيبة – مُفضِّلة عدم ذكر اسمها – : شئنا أم أبينا فأطباء الأمتياز هم الأغلبية في المستشفيات الحكومية والتعليمية فمثلا مستشفى أطفال تكون في أربع وحدات كل وحدة يكون فيها اختصاصي ونائب واحد أو أثنان وأطباء الامتياز يكونون في الوحدة (6_ 14) طبيب وهم القوة العاملة والأغلبية وكل الجهد يقع عليهم.
وحول مدى كفاءتهم في أداء الخدمات العلاجية والطبية تقول إن كفاءتهم تصل الى نسبة 60% تلك ناحية أما الاخرى فهى أن طبيب الامتياز عادة يكون فوقه ثلاثة مشرفين هم الطبيب العمومي، نائب الاختصاصي والاختصاصي. ولكن يكون الخلل في إمكانية توفر نائب الاختصاصي المسؤول مباشرة عن طبيب الامتياز فبعضهم لا يتوفر بالقدر الكافي ويكون بعيدا عن الحوادث وهذه واحدة من أسباب الخلل، ونقول بعضهم فأنا عملت في 6 مستشفيات اثنين منها ما كان النائب متوفرا وواحد لم يكن هناك نائب أصًلا بالرغم من كونه مستشفى حكوميا كبيرا. والناس غالبا ما تظلم في هذه النواحي طبيب الامتياز مع العلم أننا لو أمعنا النظر لوجدنا أن المستشفيات الحكومية غير مؤهلة وتفتقد لبعض المعينات مثل أدوية الحوادث والطوارئ وهذه المعينات تشح في المستشفيات الحكومية ورغم توفرها في نظيراتها العسكرية. وتختم حديثها بأنها أيضًا ستهاجر وأنه لم يتبق من دفعتها سوى خمسة فقط والمكونة من قرابة الثمانين طبيبا، واثنان فقط من الخمسة وضعهم جيد جدًا.
على الدرب سائرون
لكن اختصاصي البصريات بمنظمة مدى الإبصار بمكة المكرمة وليد إدريس عبد الله قال لـ(السوداني) في معرض حديثه عن صغار الأطباء: لا أظنهم مؤهلين ليكونوا موضع ثقة فالخبرة لها أثر فعال ولا أعلم أحدا بقي في السودان من ذوي الخبرة من جيلنا وحتى من الأجيال المتأخرة فالطلب كثير ولا أخفيك إن قلت لك إن المؤسسة التي أعمل فيها تريد استقدام زملائنا ولم نجد لهم لا من القدامى ولا من المتخرجين حديثا وأغلب من بقي في السودان في القطاع الخاص وفي المستشفيات الحكومية هم زميلاتنا من العناصر النسائية بحكم ظروفهن وقد استأثرت ذوات الخبرة منهن بالوظائف الحكومية ليبقى القطاع الخاص لقليلات الخبرة وحديثات التخرج.
وبالطبع فالسؤال المهم هنا هل بقى هؤلاء الشباب للعمل بالسودان رغم تحفظات البعض على خبرتهم؟ الاجابة لا والبراهين كثيرة منها دكتورة (رشا) والتي هاجرت مباشرة بعد فترة الإمتياز واضافت لـ(السوداني): أسباب هجرتنا ليست مادية في المقام الأول فالطبيب بحاجة إلى تطوير نفسه. أما عن فترة الامتياز وعن كون صغار الأطباء قد لا يكونون مؤهلين بالقدر الكافي لتقديم الخدمات العلاجية فقالت: فترة الإمتياز هي اجتهاد شخصي والمنظومة في المستشفى لا يوجد طبيب امتياز يأخذ قرارا لوحده تجاه المريض مهما كان الوضع سيئا يكون هناك اختصاصي مؤهل اكبر منه متابع لقراراته.
وحكت لنا دكتورة رشا قصصا واقعية كثيرة قالت انها شهدت تفاصيلها بنفسها منها قصة الطبيب البارع الذي لم توفر له الدولة أكثر من مليون (بالقديم) كمرتب شهر وخلال فترة وجيزة جداً اتاه عقد عمل من المملكة العربية السعودية مقابل راتب شهري يقترب من الـ(45) مليون جنيه.
وايضاً كان عندنا مريضة بسرطان الدم حيث صادف عدم وجود طبيب في الخرطوم يعالجها لسببين الاول انه اصلا لا يوجد اختصاصيو اورام لان احدهما سافر والآخر كان في اجازة زواج، فالذي حدث هو انه تم ترحيل المريضة للطبيبة الثالثة في مدني فكانت هى الثالثة غائبة بسبب انها في اجازة وضوع. واضافت : هذا هو الوضع في السودان، والوزارة مسؤولة في المقام الاول، فالذي يحدث الآن ليس بسبب اننا بلد فقير، وانما ناتج لسوء ادارتنا فالوزارة يبدو انها لا تهش ولا تنش في كل ما يحصل امامها رغم انها المسؤول الاول والاخير.
خيار صعب
ويقول د. عبد الله محمد عبد الله اختصاصي الأشعة والموجات الصوتية بالمركز القومي للعلاج بالأشعة والطب النووي لـ(السوداني): إن واقع هجرة الاطباء من بلادنا يكشفه (ثيرمومتر) محدد هو أننا في كلية الطب كنا (250) طالب، الموجود منهم الآن بالسودان فقط (10) اطباء أما البقية فقد حزموا امتعتهم وجاهروا في كل بلاد العالم. وأضاف: حتى نكون منصفين هناك آثار سلبية وآثار إيجابية لهجرة الكوادر الطبية والتي تزايدات بصورة مخيفة في الآونة الأخيرة. أولًا أدى ذلك إلى تناقص عدد الكوادر التي تؤدي الخدمات الطبية وجزء كبير جدًا من المستشفيات أصبح فارغة، رغم أن كليات الطب تخرج سنويًا أعدادا من الأطباء في مختلف المجالات. حيث نجد انه يهاجر أطباء في مختلف الدرجات، كبار اختصاصيين/رؤساء الأقسام في المستشفيات وهذا أمر لا يحدث إلا في السودان فقط، يترك رئيس قسم وحدته ويهاجر. وكذلك النواب أثناء التخصص/ الأطباء العمومون ولخبرتهم فهم أحد أعمدة الخدمات الطبية التي تقدم. إضف إلى ذلك انعدام الخبرة التراكمية للكوادر الجديدة التي تستلم مهامهم، كما أن تأهيلها الأكاديمي والعملي يكون غير كاف لتقديم الخدمات الطبية للمريض وبالتالي ينعكس دوره سلبًا على أداء الخدمة.
ومن الآثار السالبة ما ينعكس أثرها على الطبيب نفسه فكثيرٌ ممن هاجر كان مكرهاً ففي السعودية تحديدًا يعمل بعضهم في أماكن طرفية ريفية أو شبه ريفية وتكون هناك معرفة أقل بكثير من تأهيلهم الأكاديمي وبمرور الوقت يؤثر ذلك على كفاءتهم المهنية وعلى مستواهم الأكاديمي.
ومن الآثار السالبة المترتبة على هذه الهجرة هي عدم تواصل الأجيال فالطب مجال يعتمد على التلقي فسلسلة التعليم تكون قد انقطعت، لكم أن تتخيلوا مثلًا ، رئيس قسم في أعرق كليات الطب في السودان، سابقًا كان في القسم عدد كبير جدًا من البروفيسرات، مع خبرة أقلها 30 عام، وحملة الدكتوارة وبسبب هجرتهم لا يوجد من يرأس القسم إلا من حملة الماجستير، فتخيلوا أثر ذلك على الأداء الأكاديمي في الكلية. وهذا الأمر لا ينسحب على الأطباء فقط بل يشمل كل من يقدم خدمات طبية في السودان.
ويضيف د.عبدالله قائلًا: أما الإيجابيات فهي تحسين الوضع المعيشي المتردي للغاية،90% ممن هاجروا كان سببهم الرئيسي ضعف الدخل. فالطبيب هنا يعتمد على مرتب المستشفى إضافة إلى القرارات الجديدة التي تكون ملزمة للطبيب بالوجود أثناء ساعات الدوام الحكومي وعدم التواجد في مستشفى خاص، لكن المرتب الحكومي ضعيف جدًا والطبيب لديه إلتزامات إضافةً لحاجته للمال للتأهيل الأكاديمي لأن الوزارة في الغالب لم تعد تأهل أحدا. إضف إلى ذلك سوء البيئة التي تعمل فيها الكوادر الطبية وتردي الخدمات الصحية في الفترة الأخيرة، وإن كان سبب ذلك التردي العام للاقتصاد في السودان، المريض أمامك غير قادر وأنت عاجز عن المساعدة، مكدسين في المستشفيات، فحوصات غير مكتملة ، وضع مادي سيء، مستشفى لا يقدم خدمات، وليس للجميع القدرة على الذهاب لمستشفى خاص. فكل يوم هناك مستشفى مغلق، او آخر منقول.
ويختتم حديثهُ قائلًا: الله يصلح أحوال البلد وأن يكون المسؤولون أكثر جدية في معالجة المشاكل، وأن يتم النظر للجانب الإنساني من مشاكل الناس إضافة للمهني، وليس عن طريق الاجتماعات بل النزول إلى أرض الواقع، وليس إلزام الناس بالبقاء ووضع قيود على السفر بل العمل على تحسين الوضع.
لغة الأرقام
وفي ورقة عمل حول المتغيرات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية في دول المهجر وانعكاساتها على المغتربين السودانين العاملين بالخارج (الواقع والحلول) التي أقيمت مؤخرا بقاعة الصداقة تحدث وكيل وزارة تنمية الموارد البشرية والعمل أ/ الطاهر سليمان أيدام عن (تطور سوق العمل الخارجي وأثره على قدرة السودان التنافسية) حيث شملت الورقة إحصائيات عن هجرة الأطباء خلال السنوات 2008_ 2013.
تضمنت كل من المملكة العربية السعودية، الأمارات المتحدة، قطر ، الكويت، عمان وليبيا، ودول أخرى.
حيث بلغت جملة المهاجرين من الأطباء لهذه الدول وجاءت على النحو الآتي: في العام2008 م كان عدد المهاجرين من الاطباء (338) طبيباً وفي عام2009 م (471) طبيبا، وفي
2010 م (1297) طبيبا، وفي2011 م (1302)طبيبا، وفي 2012 (1720) طبيبا، وفي سنة2013(2251) طبيبا. وبلغت جملة المهاجرين للسعودية (6386) تليها ليبيا (528) وتلتها عمان (209) والإمارات (129)، قطر (12)، الكويت (7) ودول أخرى (8). وبلغت جملتها المهاجرين مجتمعة (7279) بزيادة بلغت (2251) من العام 2008 حتى العام 2013 بزيادة قدرها (565،9%).
الخرطوم: إيمان كمال الدين: صحيفة السوداني
ي.ع