انقلابات سياسية: واقع مختلف وخارطة “إنقاذ” جديدة يتم إعدادها في السودان.. غرف “الشعبي” المغلقة تفتح أبوابها على غرف “الوطني” المشرعة في سبيل الوصول إلى صيغ إدارة الدولة
* النسخة “الثانية”
غرف (الشعبي) المغلقة تفتح أبوابها على غرف (الوطني) المشرعة في سبيل الوصول إلى صيغ جديدة لإدارة الدولة.. في الأثناء يمضي الحزب الممسك بمقاليد الأمور في خطواته إلى الإمام دون استعجال، ويشرع النواب في إنجاز التعديلات الدستورية المتعلقة بانتخاب الولاة للوصول إلى صيغة التعيين. وبالعودة للوراء قليلاً وقراءة صورة حضور الترابي إلى البرلمان مع البشير، فإن الأمر يقودك إلى خمسة عشر عاماً للوراء؛ (مفاصلة) الإخوان كانت بسبب إصرار الترابي على انتخاب الولاة وقول القصر بضرورة تعيينهم، فما هي الدواعي التي أدت إلى انقلاب المواقف رأساً على عقب ومعها انقلاب في التصورات؟ من كان يصر على الانتخاب يعود في ذات الوقت الذي ترتفع فيه نبرات عودة التعيين!
ثمة من يرى أن الانقلاب أكبر من التغيير في مواقف الرجلين، حيث تترك استفهامات العلاقة المرتبكة بين (الوطني) و(الشعبي) في هذه الساعة بانتظار ما ستؤول إليه النتائج الختامية. الأمور كلها تمضي إلى أن ثمة أشياء تطبخ على نار هادئة، وأن الإنقاذ لم تعد هي الإنقاذ الأولى، لكن يبقى السؤال قائماً حول مترتبات الإنقاذ الثانية!
* انقلاب في خارطة العلاقات
البشير في القاهرة يعلن أن لا علاقة لحكومته في الخرطوم بالحراك المعارض الذي تخوضه جماعة الإخوان المسلمين هناك ضد نظام السيسي بالقاهرة. الزيارة القاهرية يمكن قراءتها بالزيارة التي سبقتها إلى المملكة العربية السعودية والحديث الذي أعقبها، بأن ثمة اختراق بدا ماثلاً في العلاقات السودانية الخليجية. محاولة ربط هذه التحولات بالمشهد العام الذي يحيط بالمنطقة العربية صبيحة انتهاء حقبة الربيع العربي وحالة عدم الرضا عن حراك الجماعات الإسلامية في المنطقة وبروز شبه تحالف لمواجهتها مع المسار السوداني الجديد، يمكن القول إن حالة انقلاب على الأوضاع القديمة بدأت ترتسم أمام الخطوات السودانية في تعاطيها مع العالم المحيط بها، يقودها بشكل أساسي الرئيس البشير، لكن الأمر لا ينتهي عند الخليج والقاهرة لتدخل ليبيا على الخط بزيارة رئيس وزرائها الأخيرة للخرطوم وتصريحاته بأن السودان لا يدعم الجماعات المسلحة في ليبيا ما بعد القذافي، وهي أمور تنصب كلها في اتجاه حالة الانقلاب على الأوضاع الايدلوجية السابقة من قبل أصحاب القرار في الخرطوم. ويصفها مراقبون بأنه انقلاب في اتجاه مسارات تحقيق المصالح السودانية، خصوصاً عقب إعادة النظر في التعاطي مع إيران أو البحث عن صيغ جديدة للتعامل مع المحيط الخارجي.
* الخط العام والحرس القديم
الانقلاب لم يكن فقط في الجوانب المتعلقة بالخارج، فالمتابع للمشهد في جانبه الداخلي، وخصوصاً فيما يتعلق بالصراعات داخل الحزب الحاكم، فنتائج المؤتمر الأخير التي أفرزت فوز البشير بحالة من الإجماع عليه، والتأكيد ألا بديل له في قيادة السفينة، فإن الأمر بدوره قاد إلى غياب أو انخفاض حدة الأصوات الأخرى المناوئة للرئيس داخل الحزب الحاكم، ومهد الطريق إلى السعي بقوة لحسم أي نوع من (التفلتات) أو صناعة مراكز قوى داخل الوطني، بحسب خطاب البشير عقب التجديد له. وهو ما يعني أن الخط العام للحزب مستقبلاً هو الخط الذي يقوده رئيس الجمهورية مدعوماً بحالة التأييد حتى من الحرس القديم، وهي التغييرات التي يمكن أن تقلل من تأثيرات آخرين في محاولتهم الصعود إلى أعلى في الحزب والدولة. وهو الأمر الذي يؤكد أن رؤية البشير في الحوار هي التي يمكن أن تمضي.
* تقلبات حوارية
بعد أكثر من تسعة أشهر على دعوة الحوار الوطني من قبل الحزب الحاكم للقوى الأخرى في الساحة السياسية، ثمة من يتهم الحزب نفسه بأنه انقلب على دعوته، فبعد أن كان الحوار نفسه انقلاباً صار هو الانقلاب على عملية الحوار ومخرجاته، وتسارعت وتيرة الاتهامات بأن الدعوة للحوار كانت دعوة حق أريد بها باطل للوصول إلى الصناديق التي تجدد للوطني دستوريته الشعبية، وهو أمر دفع بعراب الحوار (المهدي) إلى حمل حقائبه واختيار المواجهة من الخارج، كان آخرها ما قاله في لندن بأن ترشيح البشير لرئاسة الجمهورية خطوة غير دستورية، وعلى ذات الطريق سار حزب العتباني الإصلاح الآن في نعته للحزب الذي غادره هذا العام بأنه حزب لا يحترم المواثيق وأعاد الناس لخطوة الاحتقان الأولى فقط بالتأكيد على قيام الانتخابات في موعدها المضروب. لكن الصورة نفسها يمكنها أن تعرض معكوسة بقراءة حالة التقارب الأخير بين البشير والترابي والحديث عن تفاهمات سرية ربما يكون الآخرين جزء منها، وهو ما يشكل انقلاباً على كل الأوضاع بحسب مراقبين للمشهد، لكن في المقابل فإن القوى المعارضة في اتجاهها نحو (اليسار) تقول إن الأمر كله لا يعدو كونه انقلاباً ولكنه من شخص آخر. قوى الإجماع الوطني التي أبدلت ميثاق جوبا بوثيقة (باريس) وجددتها في أديس أبابا تأتي في آخر النفق لتوقع في (طيبة) ما يمكن قراءته بأن كل ما حدث هو محاولة لانقلاب بين (الشعبي) و(الوطني) لإعادة لحمة إسلاميي السودان مرة أخرى وكان الأمر مجرد إعادة لسيناريو يونيو (اذهب للقصر رئيساً وسأذهب للسجن حبيساً).
* انقلاب على الولاة
بهستيريا الفرح والانتظار التي عبرت عن نفسها بتكبيرات ارتجت لها القاعة الخضراء في البرلمان، دفع الرئيس البشير بمبادرته لتعديل الدستور سيما فيما يتعلق بعملية الحكم اللا مركزي ونقطة اختيار الولاة. البشير في دعوته بدا وكأنه يشهر سيوفه في مواجهة القبلية والجهوية التي استشرت في عملية اختيار الولاة في انتخابات الوطني الإقليمية، وهو أمر لا يمكن العبور فوقه إلا بإعادة النظر في العملية برمتها وهو ما يمكن أن يحل من خلال وضع الأمور كلها في يد الرئيس باعتبار سلطته الدستورية. الانقلاب على الولاة بدت خطوة مقبولة لدى الكثيرين الذين حاولوا الوصول إليها من خلال تحديد سلبيات العملية في بعدها الأولي، وقال البعض إنها تزيد من الصرف على السلطة وتعيد البلاد إلى عهد القبلية الأولى، لكن الانقلاب يمكن أن يقرأه آخرون بأنه محاولة من المركز لممارسة قبضته والتقليل من أية مواجهات محتملة يمكن أن يقودها الولاة حال اتسعت رقعة سلطتهم، وهو المشهد الذي بدا ماثلاً في تجربة النيل الأزرق مع مالك عقار رغم أن التجربة هناك كانت لها خصوصيتها المتعلقة بوجود حزب آخر هو الحركة الشعبية لتحرير السودان مقروناً ذلك بمآلات مغادرة الرفاق إلى حال سبيل دولتهم الجنوبية. في كل الأحوال فإن إعادة النظر في عملية انتخاب الولاة تبدو انقلاباً على أوضاع سياسية سادت في الفترة السابقة وإعادة المركزية لصالح خرطوم القصر ورئيسها.
* وانقلاب منتظر!
وجرس الهاتف الخاص بوزير الخارجية، علي كرتي، يرن.. المفاجأة أن من يطلب وزير خارجية السودان هو جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، يطلب في مكالمته أن يدخل السودان مع الولايات الأمريكية في حوار ثنائي يتناول فيه القضايا العالقة بين البلدين لأكثر من عشرين عاماً. السودان الذي جددت إدارة أوباما الأسبوع الماضي وجوده في قائمة الدول الراعية للإرهاب تطلب منه الآن الدخول في مفاوضات مباشرة ربما تكون نتيجتها (التطبيع)، لكن كرتي يذكر المتصل بالوعود الأمريكية السابقة للسودان وحالة التسويف من الجانب الأمريكي، لكنه في المقابل يتفق الطرفان على المضي في حوار متواصل من أجل الاتفاق. لكن في مواجهة كل الانقلابات يبقى الانقلاب على سوء العلاقات السودانية الأمريكية هي الخطوة التي يمكن أن تبنى عليها جل التحولات السياسية في البلاد.
* رئاسية فقط؟ ربما
في الوقت الذي تعلو فيه لافتات المفوضية القومية للانتخابات تذكر السودانيين باستحقاق أبريل 2015 وتحثهم في الوقت نفسه على مراجعة أسمائهم في الكشوفات، تبدو حالة التباين على أوجها بين المنظومات السياسية، فالقوى المعارضة بدت قانعة من الدخول في استحقاق تعرف نتيجته سلفاً باعتبارات الفوارق بين استعدادها واستعداد الحزب الحاكم الذي يسعى للتجديد لشرعيته عبر أصوات الناخبين. يبدو المنتظر الآن هو تحقيق عملية الانقلاب على توقيت الانتخابات وهي مطلب الجميع، وهو أمر لا يبدو مستبعداً خصوصاً في ظل حديث الترابي الأخير حول تفاهمات الاتفاق حول العملية الانتخابية وهو الوضع الذي ربما أفضى في المقابل إلى تشكيل حكومة انتقال تمهد طرق الوصول إلى نقطة يتفق حولها كل السودانيين وهو ما يمكن ربطه في المقابل بعملية التعديل المفضي لإلغاء انتخابات الولاة وحصر المسألة فقط في انتخاب الرئيس.
* انقلاب الشيخ
ثمة حالة من الاتفاق على أن واقعا جديدا وخارطة سياسية يتم إعدادها في السودان، يمثل فيه رأس الرمح الرئيس البشير الذي أنجز خطواتها الأولى، يساعده بشكل مرئي الآن الأمين العام للمؤتمر (الشعبي)، حسن الترابي، بخلفيته الإسلامية. وهو أمر من شأنه أن يضع مجموعة من التساؤلات الملحة، فالطريق الذي يمر عبر الشوارع المصرية ويمهد لعلاقات سوية مع الخليج برمته وبشكل أكثر خصوصية يبدو معاكساً للطريق الذي طالما مضى فيه زعيم الإسلاميين السودانيين، حسن عبد الله الترابي، المفتون بتجربة الثورة الإيرانية وتداعياتها على المشهد الحركي الإسلامي، لكن هذا لا يمنع النظر إلى الطريق الأخير بأنه يأتي في إطار انقلاب الشيخ نفسه على ما كان يوقن بأنه صحيح في وقت سابق أو أن ابتسامة الرجل ترنو هذه المرة إلى داخل سوداني مستقر وإلى بيت مرتب ومسقوف برؤية يقبل بها الجميع.
اليوم التالي
خ.ي