تحقيقات وتقارير

تعيين الولاة ..انتكاسة تعمق سيطرة المركز على الهامش

[JUSTIFY]لم تكن قضية الاختلاف حول آلية اختيار الولاة بالأمر الجديد، فقبل ذلك كانت من قضايا الخلاف الأساسية التي قادت إلى مفاصلة (الإسلاميين) في خواتيم العام (1999)، حينما رأي “الترابي” ومجموعته أن يتم انتخاب الولاة مباشرة من الشعب، فيما رأت مجموعة السلطة أن يتم اختيارهم عن طريق التعيين، ولكن بعد التوقيع على اتفاق “نيفاشا” بين الحكومة والحركة الشعبية في العام (2005)، تم التوافق على موضوع الاختيار المباشر عبر الانتخاب. وهاهو الأمر يعود مرة أخرى لخيار التعيين عبر المؤتمر العام للمؤتمر الوطني الذي فضل تعيين رئيس الجمهورية للولاة مبرراً ذلك بأنه لدرء القبلية والاثنية.
ويبدو أن موضوع انتخاب الولاة مر بتعقيدات جهوية وقبلية كبيرة، قرعت الأجراس للحزب الحاكم ودعته إلى التفكير في آلية يبعد بها شبح التشرذم الذي بدا واضحاً في ولايات الهامش.
واختيار الولاة ما بين الانتخابات والتعيين في ظل حكم (المؤتمر الوطني) مثل أهمية كبيرة لما له من تأثير عميق على مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كل السودان، وأوضح دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة (2005) في فصله الرابع والذي عنى بنظام الحكم (اللامركزي) في المادة (24) منه أربعة مستويات للحكم، منها الحكم الولائي كمستوى يمارس سلطته على مستوى الولايات في كل أنحاء السودان، ويقدم الخدمات من خلال المستوى الأقرب للمواطنين، وذات الدستور في فصله الثاني عشر الذي خصص للولايات بكيفية إنشاء أجهزتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، وخاصة المادة (179)-1 التي تناولت الجهاز التنفيذي نص فيه، بأن يرأسه والٍ ينتخبه مواطنو الولاية وفقاً لنصوص الدستور ووفقاً للإجراءات التي تقررها المفوضية القومية للانتخابات.
وتأسيساً على ما سبق جرت في العام (2010) ولأول مرة في السودان انتخابات عامة لولاة الولايات شارك فيها المواطنون كل في ولايته، وهنا تم في هذا الأمر إعمال الدستور، حيث مثل صورة حقيقية لمشاركة المواطنين في الحكم، كما يعتبر إنفاذاً لـ(الفدرالية) السياسية، وحصيلة ذلك ولاة منتخبون ترأس كل جهازه التنفيذي مكوناً مجلس وزراء حكومته الولائية.
الآن وبعد انقضاء أجل ولاية الولاة المنتخبين تجري الاستعدادات لانتخابات عامة في أبريل من العام( 2015) فيما يستمر حراك سياسي لاختيار المرشحين المؤهلين لذلك، بيد أن نظرة فاحصة في ماهية هذا الحراك يتبين له جلياً أن هنالك تحولاً ما قد حدث في طبيعته ومنطلقه مقارنة مع سابقه في العام( 2010)، حيث ظهرت الآن بصورة جلية ملامح التأثير والبعد القبلي في تبني المرشحين خاصة الولايات التي تتجذر فيها المفاهيم القبلية، وتتعدد وتتباين فيها المجموعات السكانية من حيث تكويناتها القبلية (ولايات دارفور وكردفان على سبيل المثال). وقد ينطبق ذلك ولكن بدرجات متفاوتة في ولايات أخريات وذلك وفقاً لما يقول به والي جنوب دارفور السابق د. “عبد الحميد موسى كاشا” الذي يرى أن الآثار المترتبة على البعد القبلي في الترشيح وفي الانتخابات، أدت إلى تنامي ظاهرة الاختيار المؤسس على البعد القبلي. ورغم صغر دائرته إلا أن الأمر له تأثيره السالب في المرحلة الأولى (الترشيحات)، وله أيضاً آثار أكثر سلبية في المرحلة الثانية (الانتخابات) ولها ما بعدها أيضاً، فهي تعمل على تعميق النظرة الضيقة، وتضع الانتماء القبلي في مرتبة أعلى من مرتبة الانتماء السياسي أو الحزبي، وتؤدي إلى السير في اتجاهات قد يضعف فيها فيما بعد الإحساس بالانتماء للوطن
وعدم الالتفات إلى السلبية الأولى يفضي إلى الثانية، ومن ثم يفضيان معاً إلى الثالثة التي تمثل المهدد الحقيقي للوحدة وللقومية، ويمثل إعاقة حقيقية لمسيرة البناء المجتمعي.
إن مشاركة المواطنين في العملية الانتخابية هدف سام، يعمل على تفعيل مبدأ الشورى، وعلى تحقيق وتركيز مبدأ الديمقراطية، هو إعمال للامركزية الرامية إلى حكم الناس أنفسهم بأنفسهم، تأكيداً للفدرالية السياسية في معناها الواسع.
والبعد القبلي في الترشيح لمنصب الوالي الذي بدأت بعض ملامحه تظهر في مرحلة الترشيحات، هو مؤشر غير إيجابي، وتحول خطير لدور القبيلة من الأهلي الاجتماعي إلى الحلبة السياسية، هو إزكاء لروح القبلية، وظاهرة تحمل في طياتها الكثير مستقبلاً خاصة مرحلة الاقتراع (الانتخابات).
في ظل هذا الوضع الذي بدت تسود فيه النزعة القبلية الضيقة، فإن إتباع نمط أو إعمال مبدأ الانتخابات المباشرة التي يشارك المواطنون فيها بالتصويت المباشر، القول الفصل فيها لصناديق الاقتراع، هذه العملية قد تفضي إلى حالات غير مرغوبة منها أن يكون الولاء القبلي أكثر جاذبية من الولاء أو الانتماء السياسي، كما أن الاختيار والتفاصيل بين المرشحين لا يتأسس على الكفاءة، بل على القبلية، ويؤدي الانقسام الحاد بين المجموعات بين مؤيد وغير مؤيد بناء على الانتماء القبلي، بالإضافة إلى السعي لتصفية الحسابات.
وفيما يري الدكتور”عبد الله حمدنا الله” أنه مبدئياً مع (الانتخابات)، ولكنه يرى أن ذلك إذا كان يؤدي إلى أي نوع من أنواع العصبية أو الجهوية أو القبلية فلا مانع من (التعيين)، من أجل محاربة التعصب على أن يكون التعيين لفترة محدودة ثم بعدها يتم الرجوع إلى مبدأ الانتخاب مرة أخرى، ولكنه يقول بمبدأ (الكفاءة) باعتبار أن السودان قطر واحد.
ولا يتفق أستاذ العلوم السياسية بجامعة بحري الدكتور “حمد عمر حاوي” مع ما طرحه الدكتور “عبد الله” فهو يقول إن السودان عانى لفترة طويلة من (المركزية) الشديدة، ومسألة تحكم المركز في الولايات وذلك حتى في اختيار من يحكمها، وهذا الواقع خلق غبناً وصراعاً على مراحل طويلة في تاريخ السودان، كان آخرها الصراع بين “الترابي” والرئيس “البشير”، وحسم ذلك في حق الولايات لاختيار حكامها. أما أن يطرح الأمر من جديد فذلك يمثل (ردة) كبيرة نحو الهيمنة المركزية، وهذا كما يقول سيفاقم من صراع الأطراف والأقاليم ويدعم اتجاه تمزيق البلاد وتقوية نزعات الانفصال. ويرى أنه كان من الأفضل أن يتريث (المؤتمر الوطني) ويراجع هذا الأمر، أما التعلل بموضوع القبلية والجهوية فيقول إن هاتين كرس لهما المركز وليس انتخاب الولايات، أما محاربة القبلية فهذه تأتي بمزيد من الحريات واللامركزية وإعمال معايير الكفاءة والمعايير العامة المحايدة. ويختم حديثه بأن الخطورة في هذه الخطوة أي خطوة تعيين الولاة، تأتي من كونها تقوي نزعات التمرد على المركز وتعطي السلطة كلها للمركز لتقرير شؤون الولايات،علماً بأن المركز نفسه (متهم) في حياده القبلي والجهوي.
ويرى مراقبون أن اتجاه الحزب الحاكم لاختيار الولاة يعد انتكاسة وسلباً لحقوق المواطنين التي كفلها لهم الدستور، فضلاً عن ذلك يصب الاختيار بإعادة (الوطني) لشموليته واعتقاده بأنه الصحيح وما عداه خطأ، ويحرم بهذه الخطوة ناخبي الولايات من التصويت لمرشحي القوى السياسية الأخرى، والمستقلين الذين ربما يقنعون الناخب ببرامجهم الانتخابي والخطوة في حد ذاتها تعتبر (انتكاسة) لهامش ديمقراطي محدود.
كما تعكس الخطوة على سبيل المثال أن تقديرات الحكومة بشأن دارفور كانت خطأ بالأساس، وكان على الحكومة أن لا تخضع عملية اختيار الولاة في دارفور لانتخابات ديمقراطية، طالما أن دارفور (تمر بظروف استثنائية)، وكان عليها تجميد أو تأجيل الانتخابات في الإقليم .
وبالنسبة للتوافق السياسي في مسألة تعيين الولاة دعا أمس قيادي بارز بالحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل)، لإعادة النظر في طريقة اختيار ولاة الولايات، لتتم بالتوافق بين القوى السياسية بالولايات بدلاً من الانتخاب المباشر.
وطالب “محمد طاهر جيلاني” وفقاً للمركز السوداني للخدمات الصحفية الحزب الاتحادي (الأصل)، بسن قانون جديد للحكم الولائي تسبقه مرحلة انتقالية يتم فيها تعيين ولاة جدد، لحين اكتمال القانون وإنفاذه على ألاَّ تتجاوز فترة شغل منصب الوالي الفترتين، مؤكداً أن حزبه مع استمرار نظام الحكم اللا مركزي ولكنه دعا لإعادة النظر في عملية الاختيار، ومراجعة التجربة من خلال توافق جميع القوى السياسية بالولايات لاختيار الولاة.
وقال “جيلاني” إنه لابد أن تتم العملية بالتوافق وليس الانتخاب وما يتطلبه ذلك من عمل آلية للتعيين والمحاسبة، مبيناً أن الولاة الذين سيتم انتخابهم لا تعلوا سلطاتهم على سلطات رئيس الجمهورية في كافة المجالات.
وكان رئيس حزب الأمة (الوطني) “عبد الله مسار” نعى تجربة انتخاب الولاة ودمغها بالفشل، لجهة أنها تسببت في تفشي القبلية وتفتيت الولايات كما قال. في وقت أبدى فيه موافقة حزبه على مقترح المؤتمر الوطني بتعديل الدستور الانتقالي لعام (2005) لتمكين الرئيس “البشير” من تعيين الولاة ومحاسبتهم. وقال “مسار” في تصريحات صحفية بالبرلمان، إن تعيين الولاة من قبل رئيس الجمهورية لا يتعارض مع سياسة الحكم الفدرالي. وأضاف: (وحتى لو تعارض فإن الحكم الفدرالي ليست ببقرة مقدسة، وأن القضية برمتها تعتمد على الممارسة). ولفت إلى أن الممارسة وحدها يجب أن تكون هي المعيار لنجاح التجربة من فشلها. وقال إلا أن تجربة انتخاب الولاة تسير عكس هذا المسعى تماماً. وشدد على ضرورة التفكير في بدائل لتغيير الطريقة القديمة، على أن يتركز الحكم الفدرالي في الخدمات والتنمية والعدالة في توزيع الموارد.

تقرير – صلاح حمد مضوي
المجهر السياسي
خ.ي[/JUSTIFY]