جدي الأرستقراطي (2)
مات جدي لأبي وترك لورثته 12 حمارا من النوع الفاخر، وقطعة أرض لا ينبت فيها حتى الصبار، كان يملك مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة ولكنه كلما رأى حمارا قوي البنية رشيق الحركة عرض على صاحبه قطعة أرض مقابل الحمار، وهكذا ضاعت أراضيه الصالحة للزراعة بسبب حبّه الشديد للحمير.. وللناس في ما يعشقون مذاهب، وخذ في الاعتبار أنني أكتب عن رجل ولد في القرن التاسع عشر، عندما كانت الخيل ركوبة السلاطين والحمير والجمال ركوبة عامة الناس.
والقارئ قد يضحك على رجل استبدل الأرض الزراعية بحمير، وقد يعتبره غبيا لأننا نعيش في زمان صارت فيه قيمة خمسمائة متر مربع من الأرض الجرداء أعلى من قيمة سيارة رولز رويس.. جدّي وجدّك أيها القارئ عاشوا حياتهم بالطول والعرض.. حياة خالية من الهموم والوساوس.. لم يتلوثوا بالكولا أو الشامبو أو الآيسكريم.. ولو كان الواحد منهم يملك أطنانا من الأموال لما وضعها في بنك (حتى بافتراض أنه كانت هناك بنوك في ذلك الزمان) بل رتب طريقة للتخلص منها بما يجلب السعادة عليه وعلى أسرته وجيرانه.. جدّي لأمي ترك لنا أرضا خصبة تسقيها مضخات ميكانيكية، ومنذ وفاة خالي الذي كان يقوم بالزراعة فيها قبل أكثر من ربع قرن، صارت تدار من قبل عائلة كانت تساعده، ويدخل عائدها كاملا في جيبها (جيب تلك العائلة التي لا تربطنا بها أي صلة قرابة أو نسب).. لم يناقش الورثة أمر تلك الأرض ولم يفكروا قط في انتزاعها من تلك العائلة، وتأجيرها لشخص بموجب شروط واضحة لتقاسم عائدات المحاصيل المزروعة فيها.. والسر في ذلك أن تلك الأرض في بلدة في أقصى شمال السودان مازالت تعرف «العيب» وتحترم العشرة وحق الجوار.. وطالما تلك العائلة بحاجة الى الأرض ونتاجها فليس من الوارد ان نطالبها نحن الورثة بتركها لنا لنتصرف فيها بما يعود علينا بالمنفعة المادية، ونحن قد هاجرنا إلى مختلف الأصقاع داخل وخارج السودان.. يعني الروح القروية فينا مازالت تعرف «الأصول».. ولدينا بيت في بلدتنا تلك لا تقل مساحته عن 3000 متر مربع ولكنه ظل مهجورا نحو خمسين سنة لأن عائلتنا انتقلت الى أواسط السودان.. ولم يكن أهل البلدة بحاجة الى موافقتنا للاستفادة من البيت فقد جعلوه حينا من الدهر سكنا لطالبات مدرسة مجاورة.. ثم انتقل اليه العامل المكلف برش البرك والمستنقعات بالمبيدات لمكافحة الناموس ودودة البلهارسيا، ويمتلئ البيت ويفرغ كل بضع سنوات حسبما يرى جيراننا. في عام 1988 شهد السودان أمطارا غزيرة تسببت في دمار مئات الآلاف من البيوت في مختلف المدن، وذات يوم اتصل بي احد أقاربي وقال ان بيتي الذي كنت قد فرغت من تشييده في حي في أطراف الخرطوم بحري قد جرى احتلاله من قبل عائلات تهدمت بيوتها بسبب الأمطار والسيول وطلب مني «توكيلا شرعيا»، كي يتولى طردهم مستعينا بالشرطة.. قلت له: ولماذا نطردهم طالما ان البيت أصلا خال من السكان وتلك العائلات بحاجة الى مأوى الى حين انجلاء البلاء؟ كان رده: انت غبي؟ تقصد ان نجعلهم يقيمون فيه من دون دفع «الإيجار»؟ كان من يرد عليه هو جعفر «ابن البلد»، وقلت له طالما انهم لن يحملوا البيت معهم عند إخلائه فاتركهم حيث هم.. ولكنه استعان بمعارفه من الشرطة وطردهم من البيت.. ونكاية به أسكنت فيه صديقا لي كان يعاني من البطالة بلا مقابل.. الغريب في الأمر ان قريبي لم يستنكر ذلك، بل قال: المهم أننا أخرجنا منه الأوباش.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]