ثقافة وفنون

مؤامرة سينمائية “ميندي” تعيد الكرنكي للواجهة.. كاميرا هوليود تغوص في شوارع الخرطوم وجبال النوبة

[JUSTIFY]لا شك أن الذاكرة الأمريكية لم تسقط من حسباتها السيناتور الشهير جوزيف مكارثي.. عقب انتهاء أوار الحرب العالمية الأولى اصطفت الدولة المحايدة في عملية الإسناد لجانب الحلفاء، وأعلن الكونغرس في السادس من أبريل (الحرب على ألمانيا)، في ظلّ حقائق موضوعية ماثلة لم يكن قرار إعلان الحرب مجرّد نزهة، بل كانت السينما والدعاية حاضرة لتهيئة المسرح. بعيد ذلك بسنوات قليلة خفتت زخات الرصاص ورممت أوروبا عظامها لكن شبح الشيوعية جثم على ناظريها، كانت هناك حاجة قوية لحملة دعائيّة وبروبغاندا، لتجييش الرأي العام، وتم بسببها بعد عشرات السنين غزو فيتنام واحتلال العراق، مكارثي بحاجة ملحة إلى الفتل على جديلة تلك المخاوف وتصفية حساباته الشخصية، انتهزها الرجل وقام بإعداد قائمة سوداء للملاحقة والإقصاء المهني في أوساط السينمائيين والكتاب والإعلاميين بدعوى ارتباطهم بالحركة الشيوعية ونصب في الكونغرس جلسات استماع رسمية ومفتوحة، منذها كانت الدعاية والسينما حاضرة في الحقل السياسي، بعيد ذلك أصبح السينمائيون حلفاءا للأيديلوجيا، عشرات الأفلام مضت حذو النعل مع الجيوش وهيأت الأرض للحريق.

حكاية ميندي

قبيل أيام بثت قناة (دبي ون) فيلم (آي ام سليف) ترجمته العربية (أنا عبدة) وهو فيلم يحكي قصة الفتاة السودانية (ميندي) المخطوفة والتي قاست سنواتها الثماني مع العبودية كما صوره الصحفي البريطاني دامين لويس، القصة التي شغلت الرأي العام حينا من الزمن وصعدت إلى منصات القضاء، كان بطلها الكاتب الإسلامي عبد المحمود الكرنكي، رئيس تحرير (الصحافة) والملحق الإعلامي الأسبق في بريطانيا، الكاميرا تغوص في جبال النوبة، وعاصمة الضباب، ثمة حلبة للمصارعة يحيط بها رهط من رجال ونساء، في الزحام ترنو طفلة صغيرة هي (ماليا أنور) التي سيخطفها تجار الرقيق فيما بعد، تنتقل الكاميرا إلى الخرطوم ومن ثم إلى لندن حيث تدور الأحداث العاصفة بتفاصيلها المثيرة، ينتهي الفيلم بعبارة (مستوحاة من قصة حقيقية) وماليا تحدث والدها عبر الهاتف والموسيقى التصويرية ينبعث منها صوت أغنية سودانية (طير يا حمام قوام).!

طريق دارفور

قالها مصور أمريكي وهو يرصد مشهداً كارثياً: (كيف تريدوننا أن نضبط العدسة وعيوننا مليئة بالدموع) كانت تلك العبارة تحاصر طائفة من الذين تابعوا الفيلم الأمريكي (الهجوم على دارفور) وهو فيلم سينمائي أفرزته موجة التصعيد الإعلامي للأزمة، ويمثل واحداً من سلسلة أفلام الرعب ذات الظلال السياسية التي أبرزت قضية دارفور على أنها كارثة على المستوى العالمي؛ تتجول الكاميرا في إحدى قرى دارفور المشيدة (بالقش) وتنقل صورة حية للنشاط اليومي للقرية مقرونة بقصاصات الخوف من المجهول والفوضى المرتقبة، ولكنها حياة فيما يبدو غير طبيعية وليست نتيجة مصادفات بحيث أنك تستطيع أن تتوقع نهايتها. الموت كائن يتربص بك والأرض أضحت رائحة الدم عطرها المفضل.. هكذا تشير (التترات)، هذا الفيلم تحديداً يعد واحداً من أخطر الأفلام التي أنتجتها هوليوود في السنوات الأخيرة لتسويق القضية وانفتحت على أثرها المأساة بشكل فشلت كل محاولات السيطرة عليها، وهنا يبرز سؤال مُلح تماماً: هل نجحت تلك الأفلام في صناعة رأي عام ساخط على النظام وقادر على التأثير على حكومات بلدانه لإطفاء الحريق.. أم أن تلك القضية لا تعدو كونها مجرد مؤامرة، كما يشير الإعلام الرسمي دائماً.. هل ثمة أزمة وُلدت خارج رحم المنطق.؟

يصعب توفير أجوبة لتلك الأسئلة على اتساع أقواسها، الشاهد أن كل ما أراد أن يقوله مخرج الفيلم (أوي بول) هو ما ظهر نهاية العرض (إن لم نوقف الإبادة الجماعية، فهذا يعني أننا لم نتعلم من التاريخ). بول استعان بشخصيات ذات ملامح عربية لتقوم بدور قادة القبائل العربية، وأسند شخصية قائد الهجوم على القرية إلى الممثل الأمريكي المصري الأصل سامي الشيخ، الفيلم الذي تم تصويره عام (2009) تدور أحداثه حول مجموعة من الصحفيين الغربيين الذين يزورون دارفور لجمع لقطات ومقابلات ليتم نشرها ورفعها لمؤسساتهم، ولكن القدر كان يرسم لهم مصيراً مغايراً .

مؤامرة سينمائية

بين أيدينا أحد أبطال فيلم (أنا العبد) بحسب الترجمة الحرفية، الكرنكي سبق أن رفع دعوى على صحيفة بريطانية نشرت القصة وكسبها وحصل على اعتذار مكتوب، لكنه فوجئ مثل الكثيرين بهذا الفيلم السينمائي يغزو صالات العرض وشباك التذاكر، هو لم يشاهد الفيلم ابتداءً كما يقول لـ(اليوم التالي)، يذهب رئيس تحرير صحيفة (الصحافة) إلى أن الفيلم جزء من المخطط المعادي للسودان وحكومته، ويشبهه بفيلم غردون، أو كما يسميها بالدعاية المضادة، حيث تنتج هوليود الأفلام وتزيف (البي بي سي) الحقائق، الكرنكي اعتبر أن الجهات التي أنتجت هذه القصة المزيفة معروفة لديهم وذات الكاتب الذي روج للعمل كتب من قبل عن سلاح كيميائي في السودان وقصف على إثره مصنع الشفاء للأدوية واتضح كذبه، وهو أيضا من ألف كتاب (دموع الصحراء) لحليمة بشير، يقف وراء تلك الأعمال منظومة متكاملة، يهود وأجهزة مخابرات، الكرنكي ينصح الحكومة برفع دعوة قضائية ضد الشركة التي أنتجت الفيلم بحسبان أن القصة مفبركة والصحيفة البريطانية قد اعتذرت عن ذلك، يمضي إلى القول إنه حتى تحمي نفسك تحتاج أن تكون قويا، يتذكر الكرنكي كيف أن الصحيفة اعتذرت له ولكنها لم تعتذر لحكومة السودان، ويقول إن مزاعمهم اتهمت الدفاع الشعبي بالاعتداء على ميندي وكيف باعوها؟. وفي المحكمة لجأوا إلى أكبر محامين يهود ليثبتوا صحة الحكاية، وقبلها حركت القضية (البارونة كوكس) وجهزت لهم عشاءً في أفخم فنادق لندن، وخلص الكرنكي إلى أنه يعرف أهل ميندي وأن والدها يعمل في الجيش، بينما هي اختفت ومنعوها من الظهور وصادورا لسانها ليصنعوا به حكايات وأفلام، ما أراد أن يقوله الكرنكي إن بطلة الفيلم مخطوفة ولا تملك حريتها، معتبراً أن القصد من وراء هذه الأفلام هو إعاقة النمو والتقدم في السودان.

صناعة المزاج

الكاتب الصحفي والمهتم بالسينما أيضاً إسحاق أحمد فضل الله لا يختلف مع الكرنكي كثيراً، ولكنه ابتدر حديثه بتلك العبارة التي تحتضن في جوفها لوما للدولة (دعهم ينتجون ما ينتجون من أفلام، ومنطق الحكومة الآن أنها لا تشغل نفسها بما يجري في الخارج وتنتظر أي شخص يريد مواجهتها في الداخل)، إسحاق يعتقد أن الدافع من إنتاج مثل هذه الأفلام هو الحقد (والبلاهة) التي تجعل هؤلاء لو قلت لهم تلك شمس يردون عليك بأنها ليست شمساً، وقال إن اليهود يخوضون معركة أول عناصرها صناعة المزاج من أصغر شيء إلى الملابس والموضة والذوق، مؤكداً أن الغرب كله الآن (تديره) شاشة السينما والتلفزيون وقد صوروا حرب الأفغان ضد السوفيت على أنها بطولات وصوروا نفس البطولات ضد أمريكا على أنها إرهاب، وهو منطق يعمل لصالحهم. وبخصوص فيلم دارفور أشار إسحاق إلى أنه تم تصويره في تشاد وحتى لو صوروه في دارفور فنحن لا نمتلك المقدرة على مراقبة المنطقة السودانية. وتساءل إسحاق: هل الفيلم توثيقي أم خيال؟ ثم يرد: الخيال يجعلهم يصورون المسلم يحمل طفلاً ويضعه في سنة الخازوق ومن غير الممكن أن تكون كاميراتهم موجودة آنذاك، وكل الفظائع المصورة لم تشهدها كاميرا حقيقية فهذا كله تمثيل. ووصم إسحاق الغرب بالسذاجة وقال: (هؤلاء أغبى خلق الله) ولذلك جاءوا بالممثل براد وبيلي زين والفرلنغ ادوارد وكريستانا لوكنغ، وهم استخدموا انجلينا كأداة وعمل هذه الفتاة ليس نموذجاً منضبطاً للإنسانية، ومضى إلى أن الدعاية انطلقت في العالم على امتداد عام (2004 ـ 2005) عندما تحدثوا عن ثلاثة ملايين أُبيدوا وتحدثوا عن الاغتصاب فثبت أنهم كذابون.

حرب “الجلاليب”

إسحاق تحدث عن حرب (الجلابيب) وقال إن بائع الخضار تجده يعمل وبعد قليل تكتشف أن في يده (رشاشاً) وكذلك تجد الأوسطى قد تحولت (المسطرينة) في يده إلى (طبنجة) وهم الآن يتحسبون لمثل هذه الحرب في دارفور. والإسلاميون في دارفور هم حاجة تانية. صاحب (ولو بعد حين) أقر بأنه كتب عدداً من السيناريوهات التي تصلح لأفلام عاصفة كان من الممكن أن تصيب العالم بالذهول ولكنه لم يجد من يتعامل معه، وقال إنه صنع أفلاماً من الذهب لمواجهة ذلك المد ولكنهم أخرجوها (بكراع حمار) – على حد وصفه – وأوضح أن المعركة إذا كانت (رقيص إلى رقيص فنحن مغلوبون)؛ فالحكومة تقول للحرامي الذي يقف على الحيطة: (تلِّب) بعد ذلك سوف تتصرف معه.

مواجهة مفتوحة

ما لم يقله إسحاق في هذه المرافعة وأشار إليه تلميحا هو النقد الذي ظل يوجهه للإعلام الرسمي بشكل مباشر، وهو أن الصفة الغالبة فيه أنه إعلام مُسخَّر لخدمة هدفين أساسيين: تجاهل أخطاء الحكومة وتمجيد منجزاتها الإدارية، كونه يبدو خجولاً أمام هذا الطوفان العالمي ورغم أنه جرت محاولة لإنتاج فيلم عربي عن دارفور يقوم بدور البطولة فيه الفنان العالمي عمر الشريف لمعالجة قضية الحرب الأهلية في السودان – كما أشار مخرجه سعيد حامد – إلا أنه لم يرَ النور ولم يجد الدعم المناسب من قبل الحكومة السودانية؛ لعله لم يدر بخلدها، أو أنه لم ينم إلى علمها بعد أن الصورة تجعلنا نرى الجمال في القبح وبالتالي تقوم بإلغاء ما هو سياسي – كما يردد الفيلسوف الألماني “فالتر”.

من هنا يتضح جلياً أن المواجهة لم تعد على أرض الميدان وإنما أصبحت مواجهة على مسرح مكشوف ولا أحد يعلم من يتحكم فيها، جوهرها الرئيسي الكتابات والأفلام السينمائية التي لا قبل للحكومة بها وهي في الغالب الأعم تشكل رأياً عالمياً ضاغطاً ومؤمناً بضرورة تسوية الأزمات الإنسانية، رأي عام واحد يدرك حجم الرسالة الملقاة على عاتقه بمجرد مرور الفيلم واقتراب نهاية العرض الذي سيفاجئنا الضوء بعده وعيوننا مليئة بالدموع.

اليوم التالي
خ.ي[/JUSTIFY]

تعليق واحد

  1. هذا الفيلم يتحدث عن موريتانيا و ليس السودان فالاستعباد ما زال موجودا حتى الآن بموريتانيا فلا تخلطوا الامور