رأي ومقالات

محمد الشيخ حسين : مهدي مصطفى الهادي ألق أولاد أمدرمان

[JUSTIFY]يبقى في شخصية أشهر من حكم الخرطوم في حياتنا المعاصرة الراحل مهدي مصطفى الهادي جانب طالما حجبه التألق الملازم لإنجازاته، وهو الجانب المستند إلى سلوك أولاد أمدرمان الذي يجعله يمشي على الأرض هونا، ويحرص على تقديم ما ينفع الناس.
على أي حال يبدو الراحل مهدي لمن يلتقيه أول مرة شخصا لطيفا ودودا لا تفارق الابتسامة محياه يثير في النفس انطباع يوحي بأنك تتعامل مع شاعر مرهف الإحساس لا دخل له بالسياسة. وقد يتولد مع تكرار المناسبات التي تلتقيه فيها انطباعا إضافيا يفيد بأن الرجل يستحوذ على قوة داخلية تضفي على لطفه وابتسامته عنادا يلازم القادة المتمرسين.

ثلاثة شواهد أما ألق أولاد أمدرمان فيبدو واضحا في سلوك الرجل، والشواهد كثيرة ولها قصص في سيرة مهدي: القيادي، المفكر، الدبلوماسي، والسياسي ذائع الصيت.
يأتي الشاهد الأول في الدهشة التي تعتري من يتعامل معه للمرة الأولى حين يلمس التواضع الجم ورحابة الصدر والأدب الجم، على الرغم من تقلد الراحل مهدي لمناصب رفيعة في الحكومة والحزب والبرلمان والجامعة العربية.
الشاهد الثاني أن الراحل مهدي، اشتهر إبان تقلده لتلك المناصب بالحزم والحيدة ورباطة الجأش، لا يسمح بالواسطة، ولا يفسح المجال للتأثير على القرارات التي يصدرها، ومعلوم لمعاصريه أنه كان يعلق لوحة بها عبارات تحذيرية على باب مكتبه.
الشاهد الثالث أن الراحل مهدي اشتهر بين معاصريه في كل مواقع عمله الرفيعة بالنزاهة، وعفّة اليد، وحلاوة اللسان، وطهارة النفس، وكان أنموذجا متفردا للقيادي النظيف والوطني الغيور.

الإنجاز الأول رغم أن الشواهد الثلاثة السابقة مهمة لتتبع أثر وتأثير الراحل مهدي منذ صباه الباكر، إلا أن المتتبع لسيرته، يتعين عليه أن يتوقف عند صديقيه الطيب حسب الرسول الكوقلي والراحل عبد الرحمن أحمد مهدي، فقد كان الثلاثة طلابا في جامعة الخرطوم في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وهنا يبدأ إنجاز الراحل مهدي الأول، فقد كان مع صديقيه يمثلون اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في الجهود التي بذلت لتأسيس الاتحاد النسائي السوداني.
ورغم صغر سنه أنذاك فقد كان الراحل مهدي من الرجال الذين دعموا وسندوا الاتحاد النسائي عمليا وماديا وفكريا ووقفوا مدافعين عن قضية المرأة السودانية في الداخل والخارج حتى تحقق الكثير من الإنجازات والحقوق التي تنعم بها المرأة حاليا.

الاعتراف بالصين تعود بنا الأيام إلى العام قبل الأخير من خمسينيات القرن الماضي فقد كانت الخرطوم تتثاءب وتظل مستيقظة تشاهد في مناكفات حزبية أفضت إلى انهيار الحكم الديمقراطي الأول، واستلام طيب الذكر الفريق إبراهيم عبود للسلطة.
باختصار كانت البلاد تجد نفسها وتحقق ذاتها أو على الأقل تجد القدرة لكي تحقق ذلك. وفي تلك الأثناء كان الراحل مهدي دبلوماسيا صغيرا في القسم السياسي بوزارة الخارجية يلتمس طريقا صعبا في وزارة ناشئة يقودها مفجر الحركة الوطنية في البلاد أحمد خير.
استيقظ الراحل مهدي في وقت مبكر من صباح الجمعة 20 نوفمبر من 1958 على زيارة من زميله في العمل الأستاذ أبو بكر عثمان محمد صالح يحمل أمرا بالحضور فورا للوزارة لأمر هام. ولم يكن مألوفا استدعاء موظفين للعمل في يوم الجمعة، لذلك عندما وصل الراحل مهدي مع زميليه في القسم أبو بكر وجبارة عبد الرحمن كان الارتباك باديا على ملامحهم، لكن الرجل العظيم محمد عثمان يسن وكيل وزارة الخارجية طلب منهم بلطف إعداد بيان عن السياسة الخارجية للثورة لإجازته وإعلانه خلال اليوم. تسأل الراحل مهدي عن المبادئ المقترحة للسياسة الخارجية رد عليه الوكيل مداعبا (لو كنا نعرف لما لجأنا إليكم). وأردف (أكتبوا بيانا تتوخون فيه السياسة الخارجية لموجبات التنمية وطبيعة التزامات السودان العربية والأفريقية وانتمائه لمجموعة عدم الانجياز). وهنا اقترح الراحل مهدي أن يعلن السودان اعترافه بالصين الشعبية. ورغم أن الاقتراح قوبل باستهجان من زميليه أبو بكر وجبارة، إلا أن الراحل مهدي حين دفع كان على يقين من أن الحكومة الجديدة ستقبل المعونة الأمريكية، فخير دليل على استقلال السودان، أن يقبل المعونة الأمريكية، ويعترف في نفس الوقت بالصين الشعبية.

عظمة الرجال بين أيدينا شاهد على عظمة الراحل أحمد خير الذي أذاع بيان الساسية الخارجية حين تلقى التهاني على هذا البيان وفقرة الاعتراف بالصين كان يرد الفضل لأهله ويقول (إنهم صنعوا من شفع الوزارة قالبا واحدا يفكرون ويحللون بنسق واحد).
ولا تنقطع فتوحات الراحل مهدي في العمل الدبلوماسي، فقد التقاه الرئيس الراحل جعفر نميري فى روسيا وهو ضمن البعثة السودانية في موسكو، فأعجب بأفكاره ونشاطه المتواصل فطلب منه العودة للخرطوم ليصبح مستشارا برئاسة الجمهورية. وأثار هذا التعيين انتباه القائم بالأعمال الأمريكي في الخرطوم كيرتس مور، وتحدث عنه في برقية للخارجية الأمريكية جاء فيها (قال الهادي إننا يجب إلا نسيئ فهم مبادرة منصور خالد، ونعتقد أن السودان صار الآن مع الغرب. إن السودان يريد سياسة مستقلة مع العالم، بالإضافة إلى توثيق علاقته مع الدول العربية). وبعد أن عين الراحل مهدي وزيرا لرئاسة الجمهورية، عاد القائم بالأعمال الأمريكي ليصفه في برقية جديدة بـ (كسينجر السودان).

معارضة قوية من المواقف الدبلوماسية الناصعة للراحل مهدي معارضته القوية لطلب تقدم السلطان قابوس للرئيس نميري لإرسال قوات سودانية إلى سلطنة عمان للمشاركة في حربها ضد ثوار ظفار.
كانت قناعة الراحل مهدي أن تلبية هذا الطلب تقلل من مكانة السودان وتحول الجيش السوداني إلى فصائل مرتزقة تخدم الأنظمة وتظاهرها في مواجهة شعوبها. ومعلوم أن الرئيس نميري لم يستجيب لذلك الطلب.
لا أدعي أن لدي الكثير من التجارب مع الراحل مهدي، لكن سيرته الفذة تفسر لنا لماذا حتفظ بهذه السمعة العطرة على مدى الأنظمة التي حكمت السودان منذ استقلاله وحتى الآن.
مكارم الأخلاق وعند الغوص في تجارب الراحل مهدي نجد أساسا راسخا للأخلاق دينا وفلسفة وثقافة واجتماعا. فالحديث الشريف الصحيح (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وعلى ذلك قس فعندما كان رقيبا لمجلس الشعب، ثار ثورة قوية ضد موظفي مكتبه، عندما دخل ذات صباح، ليجد عليه لفافة بها هدايا قيمة لشخصه، أحضرها البعض في غيابه، وكان مقدم الهدايا شخص متورط في دعوى تنظرها لجنة الرقابة، فما كان من رقيب المجلس إلا أن أمر (بعد أن عنّف بشدة مساعديه) بإعادة اللفافة إلى صاحبها، مع اعتذار حازم عن قبولها، وتحذير شديد اللهجة من مغبّة تكرار ذلك السلوك مرة أخرى، حسب رواية القانوني الضليع الدكتور محمد أحمد سالم المستشار القانوني لمجلس الشعب أنذاك.
على أن الإنجاز الأهم للراحل مهدي عندما كان محافظا للخرطوم تمثل في إقرار وتنفيذ قانون مكافحة البغاء في العاصمة القومية الذي أغلق بيوت الدعارة التي ظلت تدار علنا وبحماية السلطات لأكثر من 150 عاما في وسط العاصمة وفي قلب أمدرمان.

الزمان الباهي رحم الله مهدي مصطفى الهادي، فقد عدت لإعادة قراءة عبد الرحمن منيف في رائعته (عروة الزمان الباهي). يكتب منيف في مقدمة كتابه: إن الموت الذي أخذ يعصف قويا مستبدا بأعداد كبيرة من جيل الباهي، لا بد أن يقدم درسا نموذجيا لما يجب أن يعمل الآن. وقبل فوات الآوان! فالفسحة تضيق، والأرض تميد تحت الأرجل، أما إنتظار الوقت المثالي، الأكثر أمنا، للإدلاء بالشهادات وتدوين التجارب، فإنه تعويل على السراب. كما أن العزوف عن قول الحقيقة كالمساهمة في إخفائها أو التواطؤ عليها.

محمد الشيخ حسين
سوداناس
ت.أ[/JUSTIFY]