رأي ومقالات

الصادق الرزيقي : محمد المهدي مندور

[JUSTIFY]أنشبت المنية أظفارها، وتسرب من بيننا بهدوء كما النسمة المسافرة، وغيَّبه الموت عن حياتنا وضجيجها وزحامها بعد صبر عظيم مع المرض ورضاء نادر بالابتلاء، رجل لو خير الناس بين حياته ومماته لاختاروا أن يعيش مدى الحياة بينهم، لكن قدر الله ماضٍ وقضاءه وناموسه يلحقان كل حي ويدركان كل موجود.. فكل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، فلم يكن الدكتور محمد المهدي مندور المهدي مثل كل الناس، كان نسيج وحده، فريداً في طبعه وخلقه وسماحة نفسه وتواضعه وسمو روحه، تشعر في سمته ومحياه من أول لحظة بعزة المؤمن وكبريائه، وما من رجل حظي بمحبة الناس جميعاً ورضوا عنه مثل محمد المهدي مندور.. ينضح وجهه بالبشر وتفيض روحه المتسامية العالية بود عميق وصفاء لا حد له لو قسم على الدنيا لوسعها جميعاً.
> ولم نجد رجلاً تجسدت فيه روح التدين قولاً وفعلاً وعملاً وإخلاصاً وتجرداً كما كان هو، فقد كان عفيف اللسان نظيفه عزيز النفس رقيقها، طاهر السيرة وسريرته أنقى من قطرة ماء تنزلت من ثنايا السحاب، من يعرفه عن قرب يلمس فيه خصال المؤمن الحق وخلال الأخ الحريص الحادب، فقد كان متأدباً بعلمه ومنبته وأصله، ومتسامحاً بما وقر في قلبه من إيمان جسده وصدقه بالعمل والدأب والنقاء.

> عاش محمد المهدي في كنف والد أشهر من نار على جبل، فوالده الدكتور محمد مندور، بحر لا ساحل له، من أهم من شادوا صروح التربية والتعليم في البلاد، مثقف كبير وصاحب قضية وأثر، وهب حياته من أجل التعليم وتنشئة الأجيال وصياغة الحياة بمناهج العلم والمعرفة، وكان طبيعياً أن ينهل الأبناء من منهل ومعين والد كهذا غرس في نفوس أبنائه كل القيم الفاضلة والخصال الحميدة وأنار قلوبهم بالوعي وحسن الإدراك وحب الآخرين والزهد في بريق الدنيا الكاذب.
> عاش محمد المهدي مندور المهدي بين العالمين بأخلاقه الرفيعة ووده الصادق، كان واضحاً كالشمس، صدوقاً لا يتلَّون ولا يتغير ولا ينافق ولا يكذب، صلباً في الحق كجلمود صخر لا يتزحزح ولا يتراجع ولا ينحني لعاصفة، يواجه ويصمد في غير تراجع وانكسار، وتلك خصلة نادرة لا تتوفر إلا في الأقوياء الأتقياء من الرجال.. كل من اقترب منه، لمس فيه ميزته الأولى.. أنه مليء بالثقة الكاملة في ربه مخلص له، لا تسمعه يلعن أو تجري الغيبة على لسانه.. فقد برأه الله وغسل قلبه من الغل والحسد، وظل مترفعاً عن الصغائر ويسعى بين الناس بالخير وإصلاح ذات البين، لم تغالبه نزعة من نوازع التحيز لا لجهة أو عرق أو قبيلة أو عنصر، يقول دائماً إن دوره وواجبه في الحياة أوسع من أية أطر ضيقة ومسار أضيق.

> في كل حياته.. مذ كان كفلاً وتلميذاً وطالباً حتى تخرجه في كلية الصيدلة بجامعة الخرطوم نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، ثم حياته العملية حتى وصل أرقى المواقع التنفيذية في مجال تخصصه وفي المجال السياسي، لم يقل عنه أترابه وزملاؤه وإخوانه.. غير أنه ظل شخصاً واحداً لم تغيره الأيام والليالي ولا الملمات.. لم تطبع عليه تقلبات الحياة وظروفها ملامحها القاسية حيث تتغير الطباع والأخلاق والتعاملات.. فقد ظل هو.. هو.
> وفي كل المواقع التي تولاها.. كان المنصب والموقع يشرف به ويزدان وتعلو قيمته فالمواقع والمناصب تتضاءل أمامه.. لم تغره بوهجها الزائف وجلبتها الكاذبة، كان أكبر منها وأعف.. ولذلك عاش نظيف اليد والسيرة .. يهب ما عنده للآخرين.. وهذا يفسر مكانته عند البسطاء من الناس، فعندما كان وزيراً للشؤون الاجتماعية في بداية أيام الإنقاذ ثم ما تلاها من مواقع كان كثير العطاء مما عنده، وماله للضعفاء والمستضعفين، وكان الإخوة من جنوب السودان خاصة البسطاء منهم يحبونه ويقدرونه.. وزمرة من الفقراء يدعون له.
> وبرحيله الفاجع يفقد السودان رجلاً من أصدق وأخلص أبنائه، وتفقد الحركة الإسلامية سهماً من سهامها ويفقد المجتمع رمزاً من رموزه.. وعلماً من أعلامه.. ونسأل الله له الرحمة والمغفرة، وأن ينزله منزلة صدق عنده مع النبيين والصديقين والشهداء.

صحيفة الإنتباهة
ت.أ[/JUSTIFY]