احتفالات يزيد في عاشوراء: تأملات في زمن كربلائي آخر
لم يحدث في وقت قريب أن كان لذكرى عاشوراء، وهي مناسبة دينية وسياسية وتاريخية متعددة الأبعاد، هذه الأهمية المباشرة، لأن الأمة لم تمر بمرحلة تمزق مماثلة حتى في أيام كربلاء وصفين. وهذا في وقت شهد تزايداً وحماساً غير مسبوقين في إحياء ذكرى عاشوراء وتأمل دروسها، بما يشي بأن هناك علاقة عكسية بين تلقي الدروس واستيعابها. بل إن عاشوراء تحولت إلى واقع في كثير من ديارنا، بحيث لم تعد هناك حاجة لتذكرها. يكفي أن تشاهد الأخبار كل مساء. فهناك إرهابيون يفجرون المساجد ويقتلون الركع السجود وهم يهتفون الله أكبر، وهناك من يقاتل في جيش يزيد العصر وهو يحمل راية الحسين!
وليس هذا بجديد في تاريخ الإسلام، وهو تاريخ مليء بجماعات ترفع راية وتعمل بخلافها، خلافاً للتحذير القرآني: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لاتفعلون؟
فكل الدول التي تعاقبت على ديار الإسلام منذ نهاية الخلافة الراشدة، بكل مذاهبها من شيعية أو سنية اتبعت نفس المنهج الذي سنته الدولة الأموية، أو ما سميته في مقام آخر نموذج دمشق (مقابل نموذج المدينة). وهذه ظاهرة تحتاج إلى تأمل عميق، حيث لا يكفي لوم الطغاة، وإنما التأمل في أسباب الطغيان. فليس صدفة أن كل الدول التي رفعت راية الإسلام عملت بخلافها.
لهذا السبب، أصبح ملحاً اليوم العودة إلى عبر ودروس عاشوراء وتأملها بعمق. ولعل أول تصحيح لفهمنا عن واقعة كربلاء هو أنها لم تكن معركة، بل هجمة من جيش على فئة من المدنيين جلهم من النساء والأطفال (أشبه بما حدث في رابعة العدوية في القاهرة في أغسطس الماضي). فلم يكن الحسين عليه السلام يقود جيشاً، وإنما كان على سفر مع أفراد أسرته والمقربين منه، فاعترضه جيش يزيد لاعتقاله، فرفض الاستسلام. وبحسب كل الروايات فإن الحسين سعى بقدر الإمكان لتجنب المواجهة، ولكن لم يترك له خيار.
من هذا المنطلق فإن انتقادات المفكر الإيراني البارز عبدالكريم سوروش لتناول علي شريعتي لواقعة كربلاء تحتاج إلى مراجعة. فقد انتقد سوروش شريعتي لأنه كما قال اختار كربلاء رمزاً للتوجه الشيعي الثوري، في حين أنها كانت الاستثناء لا القاعدة، وأهمل توجهات أخرى تصالحية، مثل توجه الإمام علي والإمام الحسن والأئمة الرضا والصادق وغالبية الأئمة في الواقع. ولكن التأمل في واقعة كربلاء يؤكد أنها لم تخرج عن التوجه العام للأئمة في تفضيل الدعوة السلمية ووحدة الأمة، وعدم اللجوء إلى المواجهة إلا كحل أخير. فقد كان الإمام الحسين حين وقع اعتراضه في طريقه إلى العراق ليلتحق بأنصاره، والعمل معهم بصورة طوعية على صياغة وضع سياسي يكون مرضياً لغالبية المسلمين.
من هذا المنطلق فإن الحسين لم يكن ثائراً بمعنى أنه لم يكن قد اختار طريق العنف، حيث لم يكن في حاجة لاستخدام العنف حتى يجمع الناس حوله. كما أنه بالقطع لم يكن طائفياً، أي أنه لم يخرج من أجل تمكين طائفة أو حزب سياسي معين على رقاب العباد، بل بالعكس، كان هدفه تحرير كل المسلمين من ربقة الطغيان. ويؤكد شريعتي في تناوله للظاهرة الحسينية أن هدف الإمام كان إحياء ما اندثر من الدين وإعادة أمر الأمة إلى نصابه بعد انحراف القيادة عن النهج النبوي السليم. وليست هذه النقطة موضع خلاف بين المسلمين.
ولكن واقعة كربلاء تتعلق بمسألة جزئية في هذه المعركة الكبيرة. فقد كان أمام الحسين في كربلاء عدة خيارات، حيث كان بإمكانه أن يستسلم للأسر، مما كان يتيح له فرصة قيادة المعركة من موقع آخر وفي وقت آخر. ولكنه كان يدرك أيضاً أنه يدافع عن رمزية مكانته كممثل لبيت النبوة ورمز التحدي للظلم والطغيان، وأي قبول بإهانة هذا الرمز سيشكل ضربة لمكانته وأهميته، وصدمة معنوية لأنصار الحق القادمين والراهنين. وهذا هو لب الرؤية الحسينية، وهي أن الحفاظ على القيمة الرمزية والمعنوية ومحتوى الرسالة مقدم على الحفاظ على التجسيد المادي لهذه الرسالة.
ويذكرنا هذا بتحليل سيد قطب لمسألة رفض الرسول صلى الله عليه وسلم عرض قريش بأن يكون ملكاً عليها، حيث تساءل: ألم يكن بوسعه أن يقبل بالملكية ثم يتخذ موقعه كزعيم لفرض الإسلام على الناس؟ ويستنتج قطب من هذا ضرورة رفض أي صفقة ذات طبيعة مرحلية من أجل تطبيق النهج الإسلامي، أو أي منهج ذرائعي في هذا الاتجاه. وهناك خطأ واضح في قراءة قطب هذه، لسببين، أولهما أن عرض قريش الزعامة على الرسول الكريم كان يشترط التخلي عن الرسالة، وبالتالي فإن قبوله صلى الله عليه وسلم بهذا الشرط مخادعة هو ما لا يليق بالأنبياء (ولا بأي شخص شريف). وهذا يبطل الحجة الأساسية حول المرحلية واستخدام وسائل القوة الأخرى لدعم الرسالة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه استفادوا من بعض الأعراف القائمة، مثل نظام الجوار، ومن مصادر القوة القائمة من قبلية وعرفية واقتصادية لتعزيز الدعوة. ولكن المرفوض دائماً هو استخدام وسائل تتناقض مع الرسالة.
إذن مغزى القرار الحسيني والنبوي هو نفسه: إن الوضع القيادي الشكلي لصاحب الرسالة، وحتى بقاءه، لا معنى له ما لم يجسد معاني الرسالة. وهكذا جاء في نص رفض الرسول الكريم لعروض قريش: والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته. فهنا كما في كربلاء، كان خيار الشهادة مقدماً على أي تهاون في حمل الرسالة كاملة. وهنا كما في كربلاء، كان هذا الرفض انتصاراً لا هزيمة. فتماماً كما أكد شريعتي، فإن الحسين لم يختر الموت، وإنما اختار الحياة عندما اختار الشهادة، وهي حياة، واختار العزة والكرامة، ورفض أن يمرغ الراية التي يحملها في وحل التنازلات.
وهذا يقودنا للخطأ الآخر المتأصل في فهم كربلاء على أنها كانت هزيمة للحق ونصراً للباطل، وكارثة تستوجب النوح والنحيب، بدلاً من انتصار يستحق الاحتفال. ذلك أن مثل هذه القراءة تستبطن الاعتقاد بأن يزيداً وعبيدالله بن زياد كانا المنتصرين في تلك الواقعة، وأن الحسين وفئته كانوا المهزومين. وهذا بدوره يدفع البعض إلى الاعتقاد بأن إعادة الأمور إلى نصابها يستوجب أن يكون أنصار الحسين في مكان يزيد، أن يكونوا في موقع السلطة والقوة المادية بأي ثمن.
وهذا يفسر ما سمعناه ونسمعه مؤخراً ممن يرون في نصرهم ليزيد دمشق الجديد (وهو تشبيه معكوس، لأن المنطق يستدعي أن نشبه يزيد القديم بخلفه الذي تفوق عليه في كل مجال) انتصاراً لراية الحسين عليه السلام. وهكذا يعتقد البعض أن انتصار الدكتاتورية الطائفية في هذا البلد أو ذاك، بالاستعانة بدكتاتوريات أخرى أشد كفراً، وفرض الإذلال على شعوب المنطقة على المنهج اليزيدي هو انتصار لمبادئ كربلاء. ولو كان هذا هو الأمر لما كانت هناك حاجة لاستشهاد الحسين، حيث كان الأيسر هو التحالف مع يزيد، وعقد صفقة هاشمية-أموية للحكم.
ولكن الحسين عليه السلام رفض هذه الفكرة، وفضل الشهادة ليبقى المبدأ حياً، والرمز منزهاً عن الإهانة والإذلال. وعليه فإن الاغتيال الحقيقي للحسين عليه السلام هو ما نراه اليوم، من رفع راياته بين يدي يزيد، وتخضيب تلك الرايات بدماء النساء والأطفال، مثلما يكون الاغتيال النهائي لأبي الفضل العباس إطلاق اسمه على المجموعات الإرهابية وفرق القتل. إن الحسين وأبا الفضل لم يموتا في كربلاء، ولكنهما يقتلان كل يوم هذه الأيام.
لا شك أنه من حق أي طائفة أو فصيل سياسي أن يتخذ من الخيارات السياسية ما يناسبه، ويكون الحكم على هذه الخيارات من الشعوب والتاريخ. فهناك فصائل سياسية اختارت الانحياز إلى نظام القتل والإرهاب، وربطت مصيرها بمصيره، وقررت دفع الثمن الأخلاقي والسياسي كاملاً لهذا الخيار. وهناك فصائل أخرى اختارت كذلك نهج التسلط الطائفي وشن الحرب على طوائف من شعبها. وفي اعتقادنا أن هذه خيارات غير مبررة أخلاقياً ومدمرة سياسياً. وهناك مجموعات إرهابية رأت كذلك في القتل على الهوية مذهباً ووسيلة مشروعة. ولكن هذه مسألة وإلباس هذه الخيارات لباساً دينياً مسألة أخرى. فمن كان يرى أن مستقبله في الانحياز لطواغيت الكفر، فهذا شأنه، وإن كنا نعتقد أنه سيكون مستقبلاً مظلماً أخلاقياً وسياسياً.
أما أن يوصف مثل هذا الحلف الشيطاني بأنه تجسيد وإحياء لرسالة الحسين عليه السلام، أو يدعي بعضهم أن تفجير المساجد قربة إلى الله، فهذا ما لايجب أن يسمح به. فقتل الأطفال والنساء والأبرياء، من مسلمين وغيرهم، جريمة كبرى حسابها العاجل والآجل عند الله تعالى. أما اغتيال الحسين مجدداً بتدنيس اسمه الشريف وربطه بهذه المجازر، فهو جريمة من درجة أخرى لا ينبغي إطلاقاً التهاون مع مرتكبها. وكذلك الزعم بأن الله تعالى يأمر بقتل الأبرياء وتفجير المساجد، فهو جريمة في حق الله تعالى الذي لا يأمر بالفحشاء أو المنكر، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فالإجرام في حق الله من الكبائر، أما الإجرام باسم الله فمسألة أخرى تماماً.
[/JUSTIFY]
د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]