الشيخ والبحر: المؤتمر الشعبي في عرسه المنتظر.. هل اشترى بضاعة الحوار الوطني بسعر السوق؟..
منذ ذلك اليوم وحتى خطاب الوثبة، جرت مياه كثيرة تحت الجسر لم يبدد خريرها صوت فيروز “يجي مختار ويروح مختار والسيارة موش عم تمشي) ومع ذلك لم تنقطع الشعرة “السفيانية” طيلة سنوات الصراع المحتدم مثلما انقطعت شعرة ماركس بين جنرال روسيا وعقلها الخلاق تروتسكي ساعتها، فحمل الأخير حملاً إلى المنفى على متن قطار الخيانة
جيكل وهايد
الترابي ظل يمثل كتلة الضغط الميغناطيسية التي جذبت مجموعات مقدرة من الإسلاميين نحوها، بعضهم فوض رتل أمنياته للتحليق بجناحين بطريق الثورة، والبعض الآخر ظل موقنا تماماً بأن الشيخ هو فريد عصره، معرف في نسج بردة الشاعر أنسي الحاج “بعض السلالات، كالمواهب الفريدة، لا تتألّف من أشخاص أو أجيال بل من شخصٍ واحد” بارك الشيوخ المسعى وتأسس المؤتمر الشعبي على المبادئ التي فاصلوا عليها، مراكب الشعبي طافت على كل الجزر الهادئة والصاخبة، شارع الجامعة، مذكرة التفاهم مع الحركة الشعبية، التماهي مع قضية دارفور، التحالف مع قوى المعارضة، السجون التي شيدوها طوبة طوبة، ومن ثم الاندغام في خطاب الوثبة بلا مقدمات تفسيرية، حتى ذلك الوقت لم يسلم الترابي من تهمة استبدال لبوس المناورة الطويلة، المركوب الأبيض الأنيق لا يحفل بذرات التراب، ثمة من يزعم أنه أسقط رواية (دكتور جيكل ومستر هايد)، فصنع المؤتمر الوطني على هيئة (جيكل) الموسوم بالشرور، وصنع الشعبي بعد المفاصلة كمستر هايد الرجل الطيب النبيل، وهي رواية تقوم على فكرة عسيرة الهضم، لكنها رواية يكذبها الكثيرون بما فيهم خصوم الشعبي أنفسهم جراء الموت والسجون.
الشيخ والبحر
(كان رجلاً عجوزاً يصطاد السمك وحيداً في زورق صغير في تيار الخليج، وقد أمضى أربعة وثمانين يوماً حتى الآن دون أن ينال سمكة)، بهذا الاستهلال يبتدر آرنست همنجواي رائعته (الشيخ والبحر) يبدو صراعه وجرأته وتحمله تلخيصاً لحياة الإنسان، سانتياغو الذي يراقبه غلام صغير لا يظفر بشيء طوال الأشهر الثمانية، ولكنه في ساعة أخرى تعلق بخيوطه سمكة كبيرة جدا أكبر من حجم قاربه. وبدأ يصارعها عدة أيام وليال، فتأخذه بعيدا عن الشاطئ. ثم يتمكن منها وقد ملأه السرور، لكن في رحلة العودة ترنو المفاجآت القاتلة، رائحة الدم، أسماك القرش التي تجهز على الرجل، فلا يبقى غير هيكل عظمي، يتركه على الشاطئ، ليكون فرجة للناظرين ويبقى المجد، يا لها من نهاية مأساوية، البعض يقارب بين سانتياغو والترابي، شيخ آخر تعتوره المصاعب ولكنه غالبا سيظفر بشيء ضخم من وراء الحوار، المثير في الأمر أن الترابي يمضي على هدى، وكل من حوله يراقبون بما فيهم الغلام، حتى يتولد من نافورة الدم أكثر من سؤال يستكنه سر الحماس المهول.!؟
حوار سعر السوق
في مقالة نشرتها (الجزيرة نت) أمس الأول، أبدى الدكتور الطيب زين العابدين ملاحظة جديرة بالاهتمام، الطيب فتل على جديلة أن المؤتمر الشعبي يعتبر أكثر حزب متحمس لفكرة الحوار مع الحكومة سواء استجابت للشروط المطلوبة أو لم تستجب، وقد أورد الطيب تعليقا ساخرا لأحد نشطاء الشعبي على وسائل التواصل الاجتماعي قال فيه إن الشعبي مستعد لشراء مشروع الحوار الوطني بسعر السوق!، كمال عمر الأمين السياسي للشعبي المحاط هذه الأيام بصور كاريكاتورية ساخرة أعلن أكثر من مرة أن حزبه متمسك بالحوار الوطني ولو سيق قادته إلى المعتقلات زمراً, من خلفه عزفت الجوقة (زمرا في الجنة خالدين) وهو تصريح خطف دهشة د. خالد التجاني حتى إنه تذكر على إثره طرفة اشتهرت إبان أيام الحقبة المايوية تقول “نحن مع السيد الرئيس فيما قال, وفيما سيقول”.
ثورة من القراءات والتكهنات بخصوص موقف الشعبي المفاجئ ظل يواظب عليها عدد وافر من المهتمين، المحقق كونان لم ينجح في فك مغالق الاستفهامات، ولكنه بذر فدانين من الشكوك ألقت بظلالها على مواقف العضوية الملتزمة، فريق يساق دون جدال إلى مائدة الحوار وهو الفريق الذي يثق في الشيخ على إطلاق حركته، وهذا التيار تنمو خيوطه في ولاية نهر النيل وبالخصوص مدينة عطبرة، وفريق آخر يمشي محاذرا على أمشاطه، وفي باله أن الأرض من تحته محض ألغام، ذات الفريق هو أقرب إلى فكر الشيخ وتصوراته من الانتماء التنظيمي، هؤلاء تتعثر بهم دائما في صالون (التفسير التوحيدي) وربما كان على رأسهم المحبوب عبد السلام وعامر الحاج وراشد عبد القادر وأبوذر علي الأمين، ومن سخريات القدر أن راشد أطلق عبارة أثارت دويا هائلا وهي ( ما أسوأ من الوطني إلا شعبي مندغم).!!
“قميص عامر”
ما تبقى من ثورة عامر الحاج هو كتابات غاضبة يبذلها بين حين وآخر، انظر هنا إلى عامر الحاج وهو يقوم بفكره على حيطان انتهاج المؤتمر الشعبي للحوار.. يعترف عامر ابتداءً بأن عماد البرنامج الذي تم إعلان تأسيس الحزب عليه هو الحوار، وبديل الحوار بالطبع هو العنف والإقصاء، لكن الحوار الذي يتكلم به المحامي كمال عمر والأمين العام _ في إشارة للشيخ _ قطعا ليس هو الحوار الذي انتهجه الشعبي طوال عقد ونصف من الزمان، إنما يحرِّف الرجل وقائده الكلم عن مواضعه، يروجون لمساومة هدفها الأساس تجنب ضربة قاصمة للإسلاميين بالسودان وفقا لتدبرهم للمحيط اإقليمي والساحة المحلية، عامر دحض تلك الذريعة بأنها مساومة هدفها الإبقاء على الكتلة التاريخية المادية لإسلاميي السودان ﻻ لمشروعهم القيمي والفكري، فضلاً عن ذلك فإنها مساومة تكتيكية قصيرة المدى قاصرة الفعالية من رجل نسب إليه التجاوز اﻻستراتيجي طوال عمره، والرجل هنا هو قائد كمال عمر ﻻ كمال طبعا، لم ينته حديث عامر ولكن هنالك قراءة مشابهة للدكتور خالد التجاني استوفاها الجدل بحثاً تمر بمحاذاته، يحاول خالد فك شفرة الشيخ ويدرج مساراته بين خيارين أحلاهما مر، الخياران حسب الرؤية التجانية نظام متهالك مرشح لأن يرثه تحالف إقليمي على غرار نموذج السيسي بكل تبعاته وتداعياته. أو أن يرث نسيبه اللدود ( يقصد الصادق المهدي) الفراغ الذي خلفته الإطاحة بالحرس القديم، فأصبح خيار الترابي الوحيد إعادة الاصطفاف مع النظام الذي صنعه مع إدخال بعض التحسينات عليه، بيد أن عامر والذي خلع قميصه السياسي يرى أن خطيئة الترابي وهو شديد البراجماتية والواقعية، وفي عمره وطاقته ومحدود إمكانات حزبه الضعيف اليوم، فقد اختار أقصر الدروب إلى ما يظنه مخرجا، لم يعد بعمره ولا وسعه خوض معركة كبيرة واستراتيجية.
هجرة الشعبيين
إنها هجرة أخرى فلا تذهب تماماً، تلك العبارة الشاعرية وضعها المحبوب عبد السلام المنحاز للفكرة بالضرورة نصب عينيه وهو يعبر صالة المغادرة الزرقاء، هنالك اشترى قهوة وصحيفة باريسية وبات يحمل صفة معارض، موقف المحبوب من الحوار يشوبه الغموض، فقد آثر الرجل الانزواء حتى عندما يعاوده الحنين للوطن، يكتفي بسمت البدر في الظهور يضئ ولا يبقى، لم ينشط المحبوب في أجهزة الحزب مثل كمال عمر، صديق الأحمر والسنوسي، المحبوب وارب الباب خلفه في العشر الأواخر من رمضان الأخير وشق طريقه إلى لندن، بمناسبة العاصمة الضبابية، هنالك رجل على قدر من الأهمية وسط رجالات الشعبي، وهو صديق محمد عثمان، كان قريباً من الشيخ، سجن وأهين إبان الحقبة “القوشية” وقد وطّن نفسه على الغربة ليدشن عهد المعارضة الثلجية، صديق هو أقرب إلى جبريل وعرمان ومناوي من أصدقاء الشعبي في الخرطوم، وقد اتسمت رؤيته للحوار بطابع تسويق الحلول الشاملة وهو يريده حواراً بعيداً عن السلطة كما كان ماضيا انعطاف الناس نحو دعوة السلطة لأنه البديل الأفضل ولكنه ليس الأوحد، صديق تنتابه الهواجس دائماً ولا يخفي أن الإقبال على الحوار بذات العقلية التي صنعت الأزمة نوع من إضاعة الوقت إلى حين وقوع الكارثة، وفي هذا الشأن لديه وصفة خارطة طريق لا يحبذها أنصار النظام.
مترو ألمانيا
حسناً لنقطع تذكرة المترو الجميل إلى ألمانيا، هنالك على مقربة من ضجيج الماكينات العتيقة يعيش الطبيب علي الحاج نائب رئيس الحزب وأخطر الشخصيات التي صنعت عجينة الإنقاذ، الحاج هو وأسرته في وئام وأكثر تصالحاً من خطوات شيخه، ولا يزال البعض يتذكر مقولته قبل شهر ونصف تقريباً (ذكرى الرابع من رمضان هذا العام ستكون مختلفة) علي هو مع الحوار قلباً وقالباً ولو شئنا الدقة فهو مع قرار مؤسسات الحزب دون مرارات، في المنطقة ما بين الجنة والنار على سبيل المجاز يقف راشد عبد القادر وعمار السجاد، فهما لم تكف جراحهما عن الصراخ ولكن الحزب قال كلمته، السجاد ربما أوكلت إليه مهمة رش الماء على أغصان الأشجار الجافة، وقد أخذ على عاتقه مهمة تنظيمية في الغالب يتحين قطافها الشيخ نفسه.
“سامسا الأسمر”
نحن الآن بين يدي حالة أشبه بحالة الشاب (غريغور سامسا)، بطل القصة المثيرة لفرانز كافكا، سامسا كان قد استيقظ من نومه في إحدى الليالي الحالكة، وما إن أفاق من أحلامه المزعجة حتى وجد نفسه وقد تحوّل إلى كائن غريب، ثمة من ينظر إلى الشعبي على هذا النحو، الرواية التشيكية صنع منها فيلم وسم بالعنوان “المتحول”، الذين انتصبوا خلف هذه العدسات بالضرورة فقد انتظموا ضمن جموع الناقمين على توجهات الحزب، ومع ذلك فشلت كل محاولات فك مغالق صمت الترابي، حتى مساء أمس الأول ظل طاقم الحراسة ينبه الشيخ لتربص الكاميرات، الوحيد الذي حصل على تصريحات ضاحكة هو أمبيكي، الترابي وعد الصحفيين بالخروج عن حالة الصمت بعد نهاية الحوار الوطني، حزمة من التفاسير تناثرت هنا وهناك، آخرها حديث كمال عمر بأن الترابي سكت عن الكلام المباح لمنح مؤسسات الحزب فرصة العمل، كما أردف بالقول: “الآن تتحدث مؤسسات الحزب، لكن الترابي سيأتي يوم يتحدث فيه ويقول كلام كبير”. إذن هنالك عمل ضخم يجري خلف الكواليس يمسك الشعبي بمسطرينته، ذات البناء المحاط بالأسوار العالية تنمو غابات الأسمنت حوله، ربما تصدق فيه نبوءة حسن مكي بدمج الحزبين في كيان واحد ولربما كانت للشيخ كلمة أخرى.
اليوم التالي
خ.ي