رأي ومقالات

الفريق الركن ..إبراهيم الرشيد: بعد ضرباته الموجعة للقوات الإيطالية.. قائد بريطاني يصف الجندي السوداني بـ(الناموس الآلي)

يحكي الدور المتعاظم للقوات المسلحة في تحقيق استقلال السودان، تاريخاً مشرِّفاً للشعب السوداني، عامة وللجندي السوداني خاصة، ذلك الماضي الزاهر الذي كان أساساً لقاعدة المستقبل المشرف بإذن الله. وحتى لا يأخذنا الإسهاب بعيداً ويكون العرض مخلاً، سنكتفي بدور القوات المسلحة في تاريخ السودان الحديث والحركة الوطنية ودور قوة دفاع السودان وآثارها في الاستقلال.

الجيش والحركة الوطنية
رغم محاولات البريطانيين لوأد الحركة الوطنية السودانية في مهدها، ومنع انتقال عدوى الثورة المصرية إلى السودان، فإنها لم تستطع ذلك حيث انتهجت الحركة الوطنية الطابع السري وأسلوب المنشورات الذي انتشر على نطاق واسع، أزعج السلطات البريطانية في السودان. وأدى تطور الأحداث على الساحة إلى تغلب العناصر التي كانت تدعو إلى العلنية الكاملة لنشاط جمعية (الاتحاد السوداني)، ولاستخدام العنف في مقاومة الإدارة البريطانية، وتمخض ذلك عن ظهور جمعية اللواء الأبيض بقيادة علي عبد اللطيف في العام (1924م).

في يونيو في نفس العام الذي كونت فيه جمعية اللواء الأبيض، قامت التظاهرات في أم درمان والخرطوم، يتزعمها أعضاء جمعية اللواء الأبيض بقيادة الضابط (علي عبد اللطيف)، وقد عمّت تلك المظاهرات كل مدن السودان، وقابلتها الإدارة البريطانية بالقهر، إلا أن أخطر سمات تلك المظاهرت هي المظاهرات العسكرية، ففي صباح التاسع من أغسطس (1924م) بدلاً من أن يصطف طلبة المدرسة الحربية لطابور الرياضة البدنية، اصطفوا في طابور بيادة، (جنباً سلاح) بالذخيرة، رافضين إطاعة أوامر الضباط الإنجليز وجابوا شوارع الخرطوم حيث ذهبوا إلى منزل (علي عبد اللطيف) ثم زاروه في معتقله في سجن بحري وحيوه (بسلام سلاح)، إجلالاً وتقديراً له ولجمعية اللواء الأبيض، ما يشير إلى أن تلك المظاهرات التي قام بها طلبة المدرسة الحربية آنذاك كانت رد فعل لما يجري في الشارع السوداني الشيء الذي أدى إلى قفل المدرسة الحربية وسجن قادة التمرد.

أحداث مدرسة (ضربنار)
لم تقتصر المظاهرات العسكرية على الخرطوم وحدها، بل انتقلت إلى معظم الوحدات العسكرية. ففي عطبرة، خرجت أورطة السكة الحديد بمظاهرة وتصدت لها القوات البريطانية وقمعتها ولاقى أربعة أشخاص حتفهم وأُصيب أحد عشر آخرين وفي 24 سبتمبر 1924م، تمردت الأورطة الثالثة عشرة سودانية بملكال، وخرج أفرادها في مظاهرة جابت شوارع ملكال منددة بالإنجليز، وكانت تلك أول حركة من الكتائب السودانية ضد الإنجليز، لذلك كان الرد البريطاني عنيفاً، إذ تم تسريح الجنود المتظاهرين وتم إرسال الضباط المحرضين إلى الخرطوم.

وفي يوم الخميس 27 نوفمبر 1924م، تحرك الملازم عبد الفضيل الماظ على رأس قوة مكونة من فصيلة مشاة من معسكر (عباس) واتجه إلى السجن الحربي وانضم إليه الملازم (سيد فرح)، على رأس قوته المكونة من المساجين الحربيين الذين أخرجهم من السجن وألبسهم الزي العسكري واتجهوا جميعاً إلى مدرسة (ضربنار) وانضم إليهم الملازم (سليمان محمد أحمد) من الهجانة، والملازم ثاني (ثابت عبد الرحيم) من السواري، والملازم ثاني (علي محمد البنا) من الكتيبة الثانية عشرة سودانية، والملازم ثاني (حسن فضل المولى) من مدرسة ضربنار، واستطاعت تلك القوة أن تستولى على مخزن سلاح مدرسة ضربنار، واستولت على كل الأسلحة والذخائر الموجودة به ووقعت المعركة الشهيرة التي دارت في المستشفى العسكري والتي استبسل فيها الجنود السودانيون حيث سحق البريطانيون المقاومة بهد المستشفى على رأسهم، واستشهد الملازم عبد الفضيل الماظ و14 آخرين وجرح 13 واختفى )تسعة)، من بينهم الملازم سيد فرح، وقد سلم الضباط الأربعة الباقون أنفسهم في مدرسة ضربنار، وتمت محاكمتهم بالإعدام، وأعدم ثلاثة منهم وعدل الحكم على الملازم (علي البنا) إلى السجن لمدة خمسة عشر عاماً.

ولم تكن حركة الضباط في نوفمبر (1924م) مجرد تمرد، بل كانت مساندة للحركة الوطنية التي قادتها جمعية اللواء الأبيض حيث أثبتت ذلك تقارير المخابرات البريطانية، ليس ذلك فحسب بل إن تقارير الاستخبارات البريطانية أشارت إلى أن الضباط السودانيين كانوا يعدون لانقلاب في الوقت الذي يذهب فيه معظم الضباط البريطانيين إلى الإجازة الصيفية.

كانت النتائج المباشرة لسحق حركة الجيش في نوفمبر 1924م هي انسحاب الجيش المصري والموظفين والقضاء على جمعية اللواء الأبيض وإزالة النفوذ المصري من السودان لتنفيذ الخطط البريطانية المتعلقة بالإدارة الأهلية والجيش حيث أُنشئت قوة دفاع السودان في السابع عشر من يناير 1925م.

الحرب العالمية الثانية
الحديث عن الحرب التي خاضتها قوة دفاع السودان في شرق وشمال إفريقيا يطول ولكن اختصاراً دون الإخلال بالمضمون، نحتكم إلى أحد قادة الأعداء الذين شاركناهم في حربهم بغية الحصول على تقرير المصير، وهو الجنرال السير (وليام بلات)، قائد قوة دفاع السودان (1928 ـ 1941م) حيث قال: (مازالت السرايا السودانية مستمرة في سيرها وهذا يدل على تدريبهم العالي في التحمل وكانت هذه القوة تشن هجمات خاطفة كالناموس الآلي على القوات الإيطالية لتختفي بنفس السرعة قبل أن تتمكن القوات الإيطالية من إتخاذ الإجراءات المضادة المناسبة تجاهها، فتعيد الهجمة الخاطفة تلو الأخرى في موضع آخر بعد ساعات معدودة ولربما دقائق. فإن الهجوم على حدود بطول ألف ميل على مدينة كسلا والقلابات لا بد أنه من السهل اختراقه عند عدة نقاط وهنالك خط دقيق بل غاية في الدقة للقوات المسلحة يتخللها ثغرات واسعة تم سدها بواسطة أفراد الشرطة السودانية وأفراد من المحافظات المتطوعين والمتسلحين بأسلحة معارة حيث لعبوا دوراً بطوليًا في هذه الأحداث).تُرى هل هناك جيش في العالم خضع لتجربة أقسى مما خضع له الجيش السوداني؟
الحديث هنا لا يعتبر حدثاً عابراً من الأحداث المعتادة والمتكررة بنفس الوتيرة والشكل لا! بل إن الجندي السوداني كان مغايراً لذلك من حيث الولاء والبسالة والثبات وأينما دقت طبول الحرب أو نداء الواجب ترن صداها من على شواطئ البحر الأحمر، ووسط الصخور وضفاف القصب الفارسي حول (كرن) وشلقا ومن أراضي أو جبال (قوجام) وفي مستنقعات ومرتفعات )بارو) ومن هضاب وغابات شبه إستوائية ومن البطاح والجبال المتاخمة للحدود خاضوا كل حرب بنجاح مكلل بالنصر. بكل إعزاز وفخر تم تخليد ذكراهم وهم جديرون بذلك.

نهضة صناعة الجيش
من الآثار الاقتصادية اشتراك قوات دفاع السودان في الحرب العالمية الثانية، إن الحرب أدت إلى تطور الصناعة الحديثة في السودان حيث قامت مصانع صغيرة أشهرها قيام الصناعات الحربية )صناعة التحويلات)، ففي العام (1940م) تم ضم النقل الميكانيكي التابع لقوة دفاع السودان إلى قسم المهمات الحربية التابع للقوات البريطانية وكونوا معاً الإمداد الحربي، وتم التوسع في القوة العاملة حيث لم تقتصر الصناعات السودانية على تلبية الاحتياجات للقوات في السودان فحسب بل امتدت لمد القوات في الشرق الأوسط ببعض احتياجاتها ومثالاً لذلك، فقد صدرت إلى قوات الحلفاء في الشرق الأوسط (200 ألف عنقريب)، لسد النقص في الأسرّة!

لقد أصبح الاقتصاد السوداني من القوة بأن يستطيع مساعدة الحكومة البريطانية في المجهود الحربي فعن طريق الإمداد الحربي صارت تباع الصادرات السودانية لبريطانيا بأسعار أقل من أسعار مجموعة الشرق الأوسط وذلك مقابل مساعدة بريطانيا للسودان بالقيام بتحسين الطرق والمواصلات السلكية واللا سلكية ومد خطوط السكة الحديد بقطع الغيار ودفع جزء من ميزانية قوة دفاع السودان.ومن الآثار السياسية والاجتماعية للحرب العالمية، وصول الوعي إلى معظم قطاعات الشعب السوداني. وارتفع شأن السودان من مكانته المتأخرة حتى برز إلى الصدارة من جراء حملة شرق إفريقيا حيث اكتسبت قوة دفاع السودان سمعة عظيمة وإعجابًا من كل الضباط بريطانيين وهنود وحلفاء وآخرين، وعندها انتقل التأثير المعنوي بالجندي السوداني إلى أهليهم.

الجيش ومكافأة الاستقلال
ونتيجة لاشتراك قوة دفاع السودان في الحرب إلى جانب بريطانيا وما قدمه السودان من تضحيات بشرية واقتصادية، تحتم على بريطانيا مكافأة السودان وتقديم مقابل، ذلك المقابل الذي كان السودانيون يتوقعونه ويصبون إليه يتمثل في مطلب عادل هو تقرير المصير السياسي والاشتراك على أوسع نطاق في إدارة شؤون البلاد ونتيجة لتلك الضغوط والتغيرات الدولية والمحلية اضطرت الإدارة البريطانية في السودان لتقديم بعض التنازلات، منها محاولة جلب الديمقراطية إلى السودان ببناء نظم الحكومات المحلية على الغرار البريطاني. بتكوين أول مجلس بلدي في بورتسودان عام 1942م، وفي ذات العام، تم تكوين مجلس استشاري للحكومة للإشراف على التطورات في الحكم المحلي حيث أصدر قانون مجلس المديريات العام 1943م وبسبب اشتراك قوة دفاع السودان في الحرب،

ظهرت في السودان موجة المطالبة بالديمقراطية وصدرت بعض الصحف اليومية التي تحمل كلمات النقد صراحة وتكونت جمعيات الطلاب، وظهرت التكتلات وتنظيمات الطبقة العاملة في ورش الصيانة البريطانية التي توسعت لظروف الحرب.

بقلم: الفريق الركن إبراهيم الرشيد- صحيفة حكايات