براغ متحف العمارة … تلك اللذّات إذا نظرت
لم أجد في مدينة واحدة كل مدارس وطرز العمارة منذ الحضارة الرومانية وحتى الآن سوى في مدينة براغ عاصمة التشيخيا، حتى أنها تحولت كلها إلى متحف حي ومفتوح للعمارة. عندما لاحظت ذلك أثناء زيارتي الأخيرة للمدينة، قررت أن أقوم بجولة بحثية للتأكد من هذه الملاحظة. وكانت هذه هي النتيجة: تأسست براغ على الطراز الرومانسكي، وهو الطراز المقلد الطراز الروماني الذي اشتهرت به الإمبراطورية الرومانية، والطراز البيزنطي. كان هو الطراز المنتشر في أوروبا في العصور الوسطى وقت تأسيس المدينة في القرن العاشر الميلادي. يتميز الطراز الرومانسكي بالحيطان السميكة والأبراج الكبيرة والأقواس والأروقة المزخرفة وكلها مبنية بالحجارة الضخمة. مع ذلك، فالطراز الرومانسكي بسيط ومتماثل. أقدم نماذج هذا الطراز القائمة في براغ قاعة سان مارتن المستديرة (روتوندا) والتي بنيت في القرن الحادي عشر.
بعدما ظهر الطراز القوطي في فرنسا في القرن الثاني عشر، دخل براغ. يتضمن هذا الطراز دعامات طائرة وأقواساً مدببة وأسقفاً معقودة شديدة الارتفاع، وأبراجاً عالية ونوافذ زجاجية ملونة في الكنائس. أشهر نماذج الطراز القوطي في المدينة برج تشارلز الذي بُدِئ بناؤه عام 1357 ليربط ضفتي المدينة على نهرها «فلتافا»، وكذلك برج «بودر» الذي يبلغ ارتفاعه 65 متراً وبني عام 1475.
نرى في براغ أيضاً مباني من طراز عصر النهضة الذي انتشر بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر في كل أنحاء أوروبا، منطلقاً من عاصمة هذا العصر، فلورنسا الإيطالية. عاد هذا الطراز في العمارة إلى قيم التماثل والتناسب والهندسة، مستخدماً في شكل منظم الأعمدة والقباب والمحاريب. من أجمل مباني هذا الطراز في براغ القصر الملكي الصيفي الذي خصصه الملك فرديناند الأول عام 1538 لزوجته الملكة آن.
أما معظم المباني المنتشرة في براغ، فهي على طرازي الباروك والروكوكو اللذين جعلا شوارع المدينة تتزين بالواجهات والنوافذ الملونة المبهجة. ومن أشهر مباني طراز الباروك في براغ دير «ستراهوف»، وهو ثاني أقدم دير في المدينة، وقصر ترويا، وكاتدرائية سان نيكولاس. أتى طراز الروكوكو في أواخر القرن الثامن عشر من انصهار طراز الباروك بعناصر فرنسية. فاعتمد طراز الروكوكو على المنحنيات والزخارف المذهبة والنحت البارز وتناسق ألوان الواجهات المبهجة. واهتم بالديكورات الداخلية منعكساً على المرايا والأثاث والتصوير الجداري. يكفي أن تتأمل واحداً من أجمل الميادين في أوروبا، وأهم ميدان في براغ، وهو ميدان كينسكي في وسط العاصمة لتستمتع بهذا الطراز. الميدان الذي بُدِئ منتصف القرن الثامن عشر سمي على اسم عائلة كينسكي التي أنجبت أول من فاز بجائزة نوبل للسلام عام 1905، وهي الكونتيسة كينسكي أو البارونة برتا فون شتينر. من الميدان نفسه تم إعلان بداية الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا السابقة ونهايتها أيضاً. ومن الأسف، من وجهة نظري، أنهم شوهوا فراغ الميدان بتمثال حديث مباشر من الفترة الشيوعية من البرونز البالغ الضخامة.
وجدت مسرح الولايات في براغ ينتمي إلى الطراز المعماري الإمبراطوري الذي بدأ في فرنسا مع عصر نابليون، المقلد الطراز الكلاسيكي اليوناني – الروماني في ضخامة البناء والأعمدة الكورنيثية المرتفعة، والمبهج بلوني واجهاته المضيئين بالكريمي والأخضر الفاتح. مثلما وجدت أبنية أخرى من طراز يطلق عليه historicism، وقد ترجمته على أنه «التأريخية»، وليس «التاريخية» كما ترجمه البعض. وهو طراز يستدعي عناصر معمارية من طرز قديمة، أو سابقة ويضيفها على تصميمات المباني الجديدة. في معظم الأحيان يخلط طرزاً معمارية مختلفة من الماضي ليضيفها في شكل مبالغ فيه على المباني. شكَّل هذا الطراز نهاية الكلاسيكية في العمارة. رأيت ذلك مثلاً في متحف براغ القومي المبني في نهايات القرن التاسع عشر، والمسرح القومي، وكنيستي سانت بيتر وسانت بول.
فوجئت عند زيارتي الحي اليهودي المشهور في براغ بمعبدين يهوديين من المعابد المنتشرة في الحي مستوحيين من الطراز الإسلامي الأندلسي. وتنتشر العناصر الأندلسية في الحوائط الملونة باللونين الأحمر والأبيض، أو الأحمر والأصفر وعلى الأبواب والأقواس وغيرها. وهما المعبد الإسباني المبني عام 1868، والمستوحى من قصر الحمراء، والمعبد اليوبيلي «Jubilee» الأحدث (1906). وسمي اليوبيلي احتفالاً بمرور 50 عاماً على تولي الإمبراطور فرانز جوزف الأول حكم النمسا. تتميز واجهات هذا المعبد بكثافة التزيين المُذهَّب أعلى الأعمدة الحاملة الأقواس التي يطلق عليها «ثقب المفتاح» وكذلك المحيطة بنجمة داود، وهي النجمة ذاتها المستخدمة في عناصر معمارية إسلامية مثل الأبواب.
ستجد في براغ انتشاراً لطراز الفن الجديد أو «آرت نوفو» الذي حمل ريادته هناك المصور والرسام المشهور ألفونس موشا المولود عام 1860، وهو أبرز فناني الآرت نوفو التشيك. ومن أجمل الأمثلة على الفن الجديد هناك مبنى البلدية المنتهي عام 1911 الذي صممه المهندسان أنطونان بالسانك وأزفالد بوليفكا، ويضم هذا المبنى قاعة فاخرة للحفلات الموسيقية ومقهى ومطعماً كبيرين، إضافة إلى قاعات للمعارض الفنية. ثم بدأت الطرز المعمارية الحديثة تظهر في براغ. نلاحظ في هذا العرض أنه كثيراً ما تمتزج العمارة بالنحت وأحياناً بالتصوير الجداري. ولا بد من ملاحظة دور الأبواب الشديدة التنوع والثراء الإبداعي في العمارة هناك، والتي تحتاج إلى بحث مستقل. كما نلاحظ أن العمارة تتبع التصوير مباشرة. هكذا، ظهرت التكعيبية في العمارة.
لكن مدينة واحدة في العالم استخدمت التكعيبية في التصميم المعماري، وهي مدينة براغ، بل وابتكرت اتجاهاً معمارياً من التكعيبية أطلقوا عليه «روندو كوبيست». جميل استخدام مصطلح «روندو» مع مصطلح التكعيبية. فـ «روندو» مصطلح من عالم الموسيقى الكلاسيكية، إذ هو قالب موسيقي يتسم بتكرار اللحن الأول، وهو اللحن الأساسي بعد كل لحن آخر في المقطوعة. أي أن براغ زاوجت بين العمارة والموسيقى في هذا التصميم المبتكر. ومن أبرز النماذج على المباني التكعيبية في براغ «بيت مادونا السوداء»، وهو أول مبنى تكعيبي أقيم في المدينة عام 1912. تم بناؤه أصلاً ليكون مبنى تجارياً. «مقهى الشرق الكبير»، الموجود داخل المبنى، هو أروع مثال باق على التصميم الداخلي التكعيبي في العالم. أنا لم أعرف حتى الآن سبب تسمية هذا المبنى «مادونا السوداء»، فهذا الاسم في الأصل هو لصور وتماثيل للسيدة العذراء تصورها سوداء البشرة. واجهات المبنى ليست سوداء، بل هي مستطيلة مكونة من مستطيلات زجاجية كبيرة ومستطيلات مبنية صغيرة ملونة باللون البني قائمة على واجهة أرضية مرتفعة.
ثم تتابعت الطرز الحديثة في العمارة على المدينة، منها العمارة الوظيفية، والمقصود منها أن يتم تصميم المبنى أساساً ليخدم الوظيفة التي سيقوم بها المبنى، أو الغرض من إنشائه، ليس أكثر. أو كما قال المهندس المشهور لو كوربيزييه إن المنزل هو آلة نعيش فيها. ازدهرت المباني الوظيفية في براغ بفضل المهندس أدولف لووز الذي صمم فيلا «موللر» عام 1930 كمبنى سكني، وتستخدم حالياً بعد ترميمها كمتحف.
بالطبع، هناك كثير من المباني المنتمية إلى العهد الشيوعي في براغ. فقد دخلت الشيوعية تشيكوسلوفاكيا السابقة عام 1945، بعد أن حررها الجيش السوفياتي من الاحتلال النازي. انهارت الشيوعية هناك مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وانفصال التشيخيا عن السلوفاك في العام التالي.
تتسم العمارة الشيوعية عموماً بالضخامة، ويطلق عليها العمارة الستالينية، نسبة إلى الزعيم الروسي جوزف ستالين، وهي عمارة محددة الملامح رمادية اللون. ليست كل العمارة الشيوعية سيئة، كما يتوقع كثير من الناس عادة. ففي براغ عدد من الميادين والمباني الضخمة الجميلة أو المتميزة، مثل فندق «كراون بلازا»، وبرج التلفزيون المرتفع 216 متراً. وهناك عمارات غير جميلة مثل مبنى البرلمان السابق الذي تتكون واجهاته من مستطيل كبير من الزجاج الأسود.
في السبعينات من القرن العشرين ظهرت أبنية من اتجاهات معمارية أحدث مثل تلك التي يطلق عليها «التعبيرية الهيكلية Structural Expressionism»، والتي توصف بالتكنولوجيا العالية High Tech architecture، أي التي تتسم باستخدام الإمكانات التكنولوجية والصناعية في تصميم المباني. تتضمن هذه العمارة عادة الحيطان الزجاجية، وأطراً معدنية ومكونات سابقة الصنع واستخداماً كثيفاً للعناصر الوظيفية التقنية. من هذه العمارة مبنى «ماغ» التجاري.
في نهاية الثمانينات من القرن العشرين بدأت تظهر في المدينة ما تسمى بعمارة ما بعد الحداثة، وهنا لا قواعد مشتركة في تصميم المباني سوى خيال المصمم الذي ينفتح على ثراء كبير في الأفكار والأشكال. من أشهر المباني التي بحثت عنها في براغ سيراً على الأقدام، المبنى المعروف بـ «البيت الراقص»، ويقع على الطريق المؤدي إلى مطار براغ وعلى نهر فلتافا. صممه مهندسان أحدهما تشيخي هو فلادو ميلونك، والثاني كندي هو فرانك غيري. صمماه عام 1992 وانتهى بناؤه بعد ذلك بأربع سنوات. هو مبنى مكون من جزءين: الأول أسطواني الشكل، تقليدي التصميم قائم على عمود واحد ضخم، يلتصق به الجزء الآخر. وهو مبنى زجاجي تماماً معوج التصميم، أي أن واجهته عريضة من الأعلى وتأخذ في النحافة حتى منتصف طولها، ثم تأخذ في العرض حتى الطبقة الأولى لتصل إلى عرض القمة، وتعتمد أربعة أزواج من الأعمدة المعوجة أيضاً، والتي يكوِّن كل زوج منها مثلثاً حاد الزاوية. من هنا، أتى وصف هذا المبنى بالراقص على ما أعتقد. في منتصف ارتفاع المبنى الزجاجي تخرج شرفة مسلحة تعتمد على عمودين مسلحين معوجين أيضاً، وتلتصق تقريباً بجزء من واجهة المبنى المجاور. أنا لم أحب المبنى. بدا لي مختلاً، وبدت الشرفة عيباً واضحاً في التصميم. وبعد… بعد كل ما توقفتُ عنده في براغ، بقيت عمارات وحيوات أخرى ضاق عنها المقال. فسلامٌ أبدي على براغ التي أحببتُها حباً جماً.
[FONT=Tahoma] سمير غريبالحياة
م.ت
[/FONT]