رأي ومقالات
د. عوض الحسن النور : حرية التعبير بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية والمواثيق الدولية (1)
استميح الأخوة القراء تأخير الحديث عن الإصلاح القضائي الذي وعدت به ، حيث إن موضوع حرية التعبير والصحافة هو موضوع الساعة وقد سعدت بحديث لوزير الدولة والإعلام ياسر يوسف وهو يقدم حديثا عن مؤتمر قضايا الإعلام داعيا إلى ضرورة احترام حرية الغير وسمعته ومراعاة الأمن القومي وحماية الصحة العامة وأخلاقيات المجتمع، كما نادى بذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وكم كنت أرجو أن يتطرق للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والذي يعد جزءا من القوانين السودانية حيث إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقيمته القانونية كان مثار خلاف حيث إن البعض يلاحظ أن الإعلان عبارة عن توصية إلا أنها تعطى مكانة أسمى وأعلى من التوصية نظرا لما يحتويه من مبادئ سامية ويرى بعض القانونيين أن للإعلان قيمة الأعراف الدولية بينما يرى آخرون بأن الإعلان قد صدر في صورة توجيه يتضمن أهدافا ومبادئ عامة تلتزم الدول أخلاقيا أو أدبيا وليس قانونا بالمحافظة عليها والسعي لبلوغها ، إلا أنه مع ذلك وثيقة ملزمة للدول أعضاء المنظمة الدولية ومنها السودان استنادا إلى النصوص المشار إليها في ميثاق الأمم المتحدة كما أن الساحة الصحفية تذخر بالمقالات كما اطلعت على موقع الصحافة والمطبوعات على الشبكة واطلعت على مقال الأخت الدكتورة رحاب مبارك عن حظر النشر بين النصوص والتطبيق .
تنص القوانين الوضعية بما فيها القانون السوداني على جرائم يجمع بينها ما ينطوي على كل منها من المساس باعتبار المجنى عليه فضلا عن أنها جميعا من الجرائم القولية والكتابية كالقذف وإشانة السمعة والسب وإفشاء الأسرار وانتهاك حرمة المساكن فكلها جرائم تمس الحرية الفردية على تفصيل قادم بإذن الله . فجوهر النشاط الإجرامي في هذه الجرائم هو التعبير عن رأي المتهم في المجنى عليه ، وهو رأي ينال به من شرفه واعتباره . ولهذا الرأي صلة بحرية الكلام الذي يتوق له الإنسان في العالم وأصبحت ظاهرة عالمية تؤدي إلى المعرفة والتنوير وخاصة عندما يكون الكلام عميقا ويتسم بالجدية . وفي ظل الأحداث التي تقع في عالم اليوم وفي ظل تحديات التطورات الأخاذة في تكنولوجيا الاتصالات والتي طورت طرق جمع المعلومات وتخزينها وتنظيمها وتبادلها مع الآخرين بل دفع السعي لخلق المجتمع المفتوح بزيادة الحماية لحرية التعبير فصدر التعديل الدستوري الأول في الولايات المتحدة يعلن صراحة أن الكونجرس يجب ألا يصدر أي قانون يعتبر تعديا على جرية الكلام . وقد تساءل الكاتب سموللا : هل يعني التعديل الدستوري حظر رفع القضايا المتعلقة بالقذف وبانتهاك سرية المرء أو عزلته أو خصوصيته عندما تنشر صحيفة قصة تعد قذفا عن شخص أو عندما تنشر حقيقة خاصة وثيقة الصلة به تعتبر انتهاكا لخصوصية الفرد حيث من المتوقع أن يشعر بالمعاناة والغضب الشديد والحرج وقد يشاركه آخرون . ورد الفعل السلبي لعملية القذف أو انتهاك سرية المرء ليس هو الضرر الوحيد الذي ينتج عن هذا التعبير بل هناك أضرار أخرى تتضمن إضافة إلى اضطراب الفرد النفسي أو ثورة الجماعة العارمة .
جريمة القذف في الشريعة الإسلامية والقانون السوداني :
في اللغة قذف الشيء معناه رميه بشدة وقوة ، والقذيفة التي تنطلق أخذ اسمها من ذلك المعنى ، والكلام الجارح يسمى لذلك قذفا . وقد اختلف أهل الاصطلاح في تعريف القذف الموجب للحد على وجوه منها ما يلي : فقد عرفه الحنفية بأن القذف في الشرع رمي بالزنى وعند المالكية نسبة أدمي غيره حرا عفيفا مسلما بالغا أو صغيرة تطيق الوطء لزنى أو قطع نسب مسلم ، وعند الحنابلة فالقذف رمي بزنا أو لواط أو شهادة به عليه ولم تكتمل البينة . والشريعة الإسلامية قد جعلت القذف من الحدود التي هي حق لله تعالى وحددت عقوبتها دون تدخل من وال أو حاكم حيث إن القذف جريمة في حق المقذوف بما يلصقه به من وصف يتعير به هو وأصوله وفروعه وعائلته كلها ويحط من قدرهم ومنزلتهم في مجتمعهم الذي يعيشون فيه . فقد قال الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . والملاحظ أن الله تعالى قد خص المحصنات بالذكر ولكن لا خلاف بين المسلمين أن المحصنين مرادون بالآية وأن الحد واجب على قاذف الرجل المحصن كوجوبه على قاذف المحصنة . فالقذف جريمة في حق المجتمع إذ يشيع فيه الفاحشة ويمس الناموس العام للأخلاق والفضيلة إذ يقول الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ .
وقد أورد القانون الجنائي السوداني حد القذف في المادة 157 وأخذ برأي الجمهور في رمي الشخص العفيف بالزنى واللواط ونفي النسب . ويتفق القانون السوداني في أن يكون الرمي بالقول صراحة أو كتابة أو إشارة . ولم يأخذ القانون السوداني برأي الحنفية والظاهرية ورواية في مذهب أحمد أن القذف بالتعريض والكتابة لا يوجب الحد لأنه محتمل والاحتمال في تقديرهم يورث شبهة والحدود تدرأ بالشبهات . ويلاحظ أن القانون السوداني لم يشترط الإسلام في المقذوف يل اشترط أن يكون عفيفا . وقد أخذ شرط العفة من كلمة إحصان في الآية ( والذين يرمون المحصنات ….) حيث إن الإحصان لغة هو العفة والبراءة من الزنى ولذلك يستوي أن يكون المقذوف متزوجا أو غير متزوج ، فإذا رمى شخص ، آخر غير مسلم عفيف يوقع عليه حد القذف .
ويتفق القانون السوداني مع القوانين الوضعية بأن القذف جريمة ولو كان المقذوف ميتا حيث إن القذف وإن كان موجها للأموات إلا أنه يراد به إيذاء مشاعر الأحياء ,
ويجب أن يكون القذف في الشريعة الإسلامية والقانون كذبا حيث إن المبدأ الأساسي للجرائم القولية أساسه في الشريعة تحريم الكذب والافتراء وإباحة الصدق في كل الأحوال . لذلك فلا عقاب في الشريعة على من يقول الحق ولا مؤاخذة على من يسمي الأسماء بأشيائها والموصفات بأوصافها ولا عقاب على من يقول للزاني يا زان إذا ثبت أنه زان ، ولا عقاب على من يقول للسارق أذا ثبت أنه سارق . وأذكر إن تسعفني الذاكرة وأنا اعمل قاضيا بمدينة سنار الجميلة في اواسط الثمانينات ان المجنى عليه وهو مريض يؤمن بالمتهمة والتي تستخدم الزار في العلاج وبعد أن أعطته الدواء أخبر المتهمة بان أم اولاده تعاني فقالت له إنهم ليسوا اولادك ؟ عاني نفسيا من هذا الأمر ونصح بان يفتح بلاغ قدف فأمام المحكمة انكرت القول وقالت إن من قال به هو بشير الجان الحبشي وأنه لا يحضر إلا في اجواء محددة ويوم السبت وأذكر أعددنا قاعة المحكمة مسرحا لذاك اليوم واعدت المتهمة اجواء من بخور وغيره وعدلت لهجتها وكأنها تتحدث باللغة الحبشية ثم قالت بان هذا الجان رفض الحديث وادينت بحد القذف .
فإذا توافرت جميع عناصر القذف وجب توقيع عقوبة أصلية وهي الجلد ثمانين جلدة وعقوبات تبعية وفقا لما قال الله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
ويثير توقيع عقوبة الجلد مسألة في حال أن القاذف غير مسلم ومسائل في هل في توقيع العقوبات الحدية على غير المسلم انتهاكا للمواثيق الدولية وهذا ما ارجو أن افرد له مقال فيما بعد ونواصل بإذن الله .
حرية التعبير بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية والمواثيق الدولية (1)
د. عوض الحسن النور قاضي المحكمة العليا بالمعاش
[email]awadhass@yahoo.com[/email]
النيلين[/JUSTIFY]