الفنانون والمخدرات.. سلوك شخصي.. تقليد أعمى أم خوف من الجمهور

في البداية كان لزاماً علينا أن نرى عن قرب للمجتمع مثار القضية وأن نرى من تلك الزاوية بحيث نكون مدركين ونحن نطرح التساؤلات كيف يبدو الحال من هذا الجانب، وماهي طبيعة نظرة الفنانين لحقيقة التعاطي في أوساطهم، ومعرفة أحسايس المغني ومشكلاته ونوازعه النفسية التي قد تكون سبباً في هذا المشكل الموجع. ونحن نتحدث إلى واحد من الفنانين الشباب حول رؤيته. كنا ندري أن المهمة صعبة تستلزم الكثير من الجدية والتحايل على الشخوص والمفردات والمعاني حتى نطرق الموضوع برفق ودون إدماء لذاكرة أحد أو سمعته، فحاولنا أن نختار من نخبة الفنانين المثقفة والواعية ونحاورهم ليكون الحديث بمنطق وعقلانية وأكثر وعياً.
الفنان الشاب محمد الحسن حاج الخضر قال: (إن السبب وراء تعاطي الفنانين للمخدرات يعزى لعدد من الأسباب في مقدمتها الرهبة من مقابلة الجمهور وهذا يعود لشخصية الفنان كأن تكون نشأته إنطوائياً أو خجولاً، منحه الله موهبة لكنه لا يمتلك الشجاعة الكافية لتقديمها، ويوجد عدد منهم تعاطي وهو يحسب أنها ستمنحه الدعم الكافي للصعود على المسرح، وهذه الفكرة عادةً ما تأتي بإستشارة من حاشيته المحيطة به أو قائمة اصدقائه المقربين. وعادة ما يكون وراء هذه الفكرة البطانة حوله. أيضاً نفس البطانة هذه، هي التي تزين له أن عملية التعاطي مربوطة بالإبداع، وهناك من يروج لفكرة أن الإنسان عندما يكون (مسطولاً) يكون أكثر إبداعاً، وعندما يتعاطى، يكون شخصاً لطيفاً وضاحكاً وسيتضاعف إبداعك. الشاب محمد أيضاً يرى إن للمجتمع دوراً كبيراً أيضاً، باعتبار أن الثقافة العامة السائدة هي أن المتعاطي شخص يمتلك خيالاً واسعاً وقدرة على خلق جو مبهر ومبدع، وهي ثقافة منتشرة حتى داخل البيوت السودانية ونتناولها نحن عادةً في (النكات) والقفشات والحكايات المضحكة. وأن ثقافة الفنان وتعليمه هما أيضاً يشكلان عاملاً مهماً جداً في قضية التعاطي ، وذلك بأعتبار أن الإنسان كلما زادت معرفته وتعليمه زاد وعيه وبالتالي تفهم قيمة إبداعه ومقدرته واستطاع أن يشكل حاجزاً واعياً بينه وبين الإدمان). إذاً محمد الخضر حاج الحسن يرمي بجزء من اللوم على المجتمع وجزء على الأصدقاء، نافياً في الوقت ذاته أن تكون فكرة التعاطي من صميم فكر الفنان.
مبررات واهية
وليس بعيداً عن زميله ولكن بإختلاف واضح قال الفنان الشاب أحمد البنا: (إن هذا المشكل يعود كله لشخصية المغني وضعفه، وأنا قد أجالس أناساً كثراً يتعاطون المخدرات لكني لم أفكر حتى لمرة في التعاطي، لأن لدي قناعتي الشخصية وأفكاري التي ترجح ذلك. أما بالنسبة للخوف ففي رأيي إن الإختلاف بين المبدع والشخص العادي أساساً هي الشجاعة الأدبية وهي الفيصل بين الفنان والجمهور، وعليه لا يمكن إعتبار الخوف من الظهور سبباً للتعاطي بل هو مبرر يسوقه ضعفاء النفوس من الفنانين لتبرير فعلتهم).
وبناءً على ما ورد من آراء الفنانين أنفسهم لا يمكن تسمية سبب محدد للتعاطي. طبعاً إذا استثنينا الحديث عن ضعف الشخصية، والخوف المرتبط بالظهور على المسرح، فخوف المبدع هو خوف فطري بسيط لا يصل لمرحلة الهلع التي تصيب الآخرين لحظة صعودهم المسرح، ولأن كل المواهب مرتبطة في المقام الأول بالشجاعة الأدبية والقدرة على مواجهة جمهور المستمعين.
نهايات حتمية
وبزاوية أخرى، كان لا بد لنا ونحن نسير في أضابير هذا العالم المخيف أن نستصحب معنا الجانب العلمي والطبي المرتبط بالطب البشري ونستمع للمختصين في هذا الجانب ونصحح بالتفاصيل العلمية الدقيقة معلوماتنا إن لم يكن بالأرقام. أحد الأطباء المختصين وواحد من الذين أشرفوا على عدد من الحالات ذات الصلة بموضوعنا، الدكتور وليد محمد سليمان والطبيب المعالج بمستشفى رويال كير قال في إفادته حول هذا القضية: (نسبة تعاطي المخدرات وسط الفنانين المغنين نسبة عالية جداً وذلك لأسباب كثيرة أهمها التفكير الخاطي وعدم النضوج الفكري للفنان بمعنى أن الناس في الوسط الفني يقلدون بعضهم البعض ويقتبسون من بعض، والمشكلة الأساسية هي أن الفنان يظن أنه يبدع حينما يتعاطى. ويحسب أنه عندما يتعاطى لا يتعب صوته وأنه يستطيع الوقوف على المسرح لأوقات طويلة، لأن مشكلة المخدرات الكبرى في أنها في بداية تعاطيها تعطيك الإحساس بالسعادة وتجعلك فرِحاً وسعيداً أمام جمهورك، وتخدعك على المستوى البدني بحيث أنك لا تشعر بأي فتور أو تعب جسدي. وأنا سألت أحد الفنانين الذين أثر التعاطي على حياتهم ومشوارهم، لماذا تتعاطى؟ فكان رده « أنا باخد عشان أكون قادر وصاحي وأكون واعي، عشان أقدر أتكلم فترة «. ومن إجابته تلك يمكنكم الحكم على مدى عدم الوعي الذي يعيشه هذا الوسط في كثير من الأحايين. وأكثر أنواع المخدرات التي يتعاطاها الناس في السودان عموماً أو الفنانون بالأخص تنقسم إلى إثنين أولها المدخنة ( البنقو.. الحشيش..الشاش) والعقاقير الطبية وأكثرها إنتشاراً ( الأكيزون) وهي تعرف في الشارع العام بـ(الخرشة) وهي أقراص موجودة بنوعين الأولى (2 ملغرام) والثانية (5 ملغرام) والأخيرة أشيع إستخداماً وتعرف عند المروجين بالـ(فايف) إشارة لوزنها، وأيضاً هناك عقار يعرف بـ(أبو صليب).
أما تأثير المخدرات على الإنسان وصحته فهناك أنواع وأشكال من التأثيرات المختلفة أولها التأثيرات الواضحة والمباشرة على الجهاز العصبي وهي إحداث تلف في الدماغ، وهناك التأثير على المدى الطويل وهو أنها تؤدي إلى مشاكل نفسية كأن يكون المتعاطي منزوياً أو يدخل في حالة إنفصام، وحالات إكتئاب، أضف إلى ذلك أن المدمن لا يميل للأكل وبالتالي يؤدي إلى انفجار في القرحة، وأيضاً يؤدي الإدمان إلى مشاكل جنسية كأن يصبح المتعاطي غير قادر على تأدية وظائفه الجنسية كرجل، والتأثيرات الإجتماعية كإنقطاع العلاقة الحميمة مع المجتمع.
و……من ثم..
ما أفضت إليه المناقشة الوجيزة في متابعة هذه القضية أكدت لنا بما لا يدع مجالاً للشك عظم المشكل الذي يعيشه الوسط الغنائي والموسيقي السوداني (حاله كحال غيره) لكنها برهنت في تدقيق لافت إلى أن كثيراً من الحالات لفنانين قادهم الإدمان إلى غياهب الموت وآخرين أنهى مسيرتهم في بدايتها وكان يمكن علاجها في حال أننا كنا شجعاناً بما فيه الكفاية لطرح مثل هذه المواضيع أو سبر أغوارها، ولأننا نراهن أن الفنان هو ثروة قومية يجب الحفاظ عليها وحمايتها توجب أن نقول كان بالإمكان أفضل مما كان كما في حالة الشاب الموهوب الذي تنبأ له الجميع بمستقبل باهر لكنه إنهار تحت وطأة الإدمان، لكن يمكننا في خاتمة هذا القول أن نشير إلى إمكانية العلاج من التعاطي وذلك بمجموعة موجهات تشمل، تنظيم برامج علاجية للمرضى سواء في المستشفيات أو في العيادات الخارجية وتقديم المشورة لهم ومساعدتهم على مقاومة استخدام المخدرات مرة أخرى ومكافحة الإدمان، وإقامة محاضرات توعوية على شاكلة الكورسات الموسيقية التي يمكنها أن تزيد من وعي الفنان، وتنبيه المغنين إلى خطورة تعاطيهم على فنهم ومجتمعهم باعتبار أنهم يؤثرون كثيراً ولهم مقلدون يمكن أن ينجروا إلى التعاطي حباً فيهم، والأهم من ذلك كله يجب على الدولة ان تتبنى مشاريع قومية واعية تتعامل مع المبدع على أساس قيمته وتجبر كل المتعاطين من المبدعين والفنانين دخول المشافي والمصحات الخاصة. الساحة الغنائية السودانية فقدت الكثيرين نتيجة تعاطي وإدمان المخدرات بالموت أو بزوال الموهبة ومرض الحنجرة أو الحبال الصوتية أو أية أمراض أخرى.

حكايات

Exit mobile version