المشهد الجديد المتعلق بإطلاق سراح المدانة على لسان الخارجية ومن ثمّ نفي النبأ لاحقاً، هذا الوضع ينبيء بوجود أصوات ربّما تحاول تلافي الأزمة، وتحقيق المصلحة العامة وضمان سريان العلاقات بشكل طبيعي مع مكونات المجتمع الدولي، فالواقع السوداني الآن لا يحتمل تصعيداً جديداً، وهو استقراء يتسق مع إفادة وزير الخارجية نفسه، الذي ذكر خلال حوار أجرته معه الزميلة (السوداني) مؤخراً حول جزئية الحكم على المرتدة، حين قال إنّ “الحكم أضر بعلاقتنا الخارجية خاصة بصدوره بمثل هذه الطريقة وبعيدا عن المعلومات الحقيقية. صدور الحكم وإعلانه لم يكن موفقا، هذه المسألة كان يمكن أن تتم فيها مشورة أعلى وأن يصدر الحكم فيها على مستوى يمكن أن يراعي أشياء كثيرة. لكني أحترم رأي القاضي”..
قراءة الوقائع من خلال دفتر الخارج حاضرة، خصوصاً مع تنامي الحملة والتصعيد المستمر الرامي للإفراج عن المدانة، إلا أن الداخل ستكون له دفاتره الخاصة والمختلفة وعيونه التي تنظر للأمر بتباين، وفي الداخل دوماً تكم مطبات الخارجية التي تشكو على الدوام منها، لكأنها تتمثل عبارات الراحل محمد عبد الحى في مفتتح ديوانه (العودة الي سنار) حين يلخص علاج الازمات، فالأزمات -من وجهة نظر عبد الحي وحسب فلسفته- داخلية في المقام الاول.. يقول الراحل: “يا أبا يزيد ما اخرجك من بسطام؟ قال: طلب الحق، قال: إنّ الذي خرجت له تركته ببسطام، فرجع ولزم الخدمة ففُتح له”.
المؤكد حتى اللحظة هو أنّ المدانة التي أنجبت طفلتها في السجن وهي محكومة بالإعدام، سيتم إمهالها عامين لكن عملية التراجع عن الحكم لن تمر بسلام وفقاً لمؤشرات أخرى، ففي خطب المساجد بالجمعة التي أعقبت القرار رحب الأئمة به ونادوا بضرور تطبيق حدود الله.. هكذا خرج الصوت من مايكرفون كمال رزق خطيب المسجد الكبير بالخرطوم، وفي ذات الطريق الذي سلكه شيخ رزق مضى الشيخ محمد عبد الكريم الذي جزم بضرورة تنفيذ الحد على المرتد ونعت من يدعون للعلمانية وحرية الفكر بأشباه المسلمين، وقال إن دعاة حقوق الإنسان لا يرتفع صوتهم إلا حين يتعلق الأمر بتطبيق حدود الرحمن. بالنسبة لهيئة علماء السودان فقد أصدرت هي الأخرى بيانا اعتبرت فيه أن حد الردة خط أحمر، لا يجوز لأحد التحدث فيه.. إذن ردة الفعل المنتظرة قد لا تحتاج للعبور نحو المستقبل، يدعم من الفرضية كذلك أنه أثناء إقامة المحاكمة رفعت جماعات لافتات تطالب فيها بإعدام مريم يحيى وتطبيق الحدود، وعقب إعلانه ارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل.. بيد أنه لا يمكن كذلك إغفال أن مجموعات أخرى كانت تطالب بعدم المحاكمة وإطلاق حرية الاعتقاد.. وهو ما يشي بأن انقساما ماثلا للعيان يبدو واضحاً في تفاصيل المشهد ولا يمكن إبعاده عن الصراع الدائر بين دعاة تطبيق الشريعة من جانب وفي الجانب الآخر من يتبنون المنهج العلماني أو الدولة المدنية.
مراقبون في تحليلهم للمشهد السوداني الآني ينظرون للحكومة بأنها ستجد نفسها في عدة مآزق؛ فمن ناحية هي تريد تحقيق مكاسب سياسية في مواجهة المعارضة من خلال التزامها بتطبيق الشريعة وهو ما يحقق لها بعض النقاط في مواجهة التيارات العلمانية، لكن مكاسب الداخل نفسها ستصطدم بظروف وخسائر الخارج؛ فالخارجية أيضا كمؤسسة تحتاج لتحقيق أهداف تواصلها مع الخارج، لكن المشهد الذي سيكون أكثر سخونة هو مشهد ردة فعل من يمكن أن يرفضوا الخطوة الجديدة للحكومة. خصوصاً في ظل الانتقادات التي أصبحت تطلقها تلك الجماعات في مواجهة الحكومة بحجة عدم تطبيقها للشريعة.
في مشهد الاصطفاف المنتظر لا يمكن اغفال بيان من هيئة شؤون الأنصار يرفض تطبيق العقوبة على مريم، في وقت ما زال فيه الشيخ الترابي يستعصم بصمته حول ما يجري دون أن يعلق عليه رفضاً أو قبولاً، لكن كثيرين يتوقعون ردة فعل غاضبة ربما تقود إلى مواجهات بين الحكومة والحركات الإسلامية الرافضة للخط العام الذي تسميه الابتعاد عن شرع الرحمن، وهي مواجهة يقرؤها البعض حال حدوثها بأنها ستعيد التحالفات القائمة الآن..
المحامي والمهتم بالحراك السياسي حاتم الياس يقرأ المشهد بقوله: “إذا نفذت الحكومة وعدها بإطلاق سراح مريم بحسب تصريح الخارجية فهذا يعتبر نقله نوعية في تفكير الحكومة.. ردة فعل التيار السلفي المتطرف إذا جاءت عنيفه وخطيره فهو أمر قد يعيد ترتيب التحالفات بشكل مفاجئ وغريب.. وربما انخرط الجميع في تحالف الحد الأدنى بما في ذلك المؤتمر الوطني نفسه ويصبح الحوار الوطني المطروح أمرا واقعا وملزما لتجنب جبهة نصره سودانية أخرى”.. بحسب قراءة الياس يمكنك أن تشهد تحالفا بين الأمة والوطني موجود أصلاً وبينه والشعبي في حال لم يقف في الضفة الأخرى للنهر، لكن يبقي سؤال آخر يتعلق بالاقتراب بين الوطني وقوى اليسار والعلمانيين وهو ما يتطلب ضرورة إعادة النظر في تعريفها للحزب الحاكم وتوجهاتها وفي حال العدم فإنها يمكن أن تتبنى مقولة وزير الخارجية علي كرتي حين ردد أن لا شيء يجمعهم بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين.
عموماً، ثمة خطوط كثيرة ستتم إعادة رسمها في المشهد السوداني وربما نشهد عمليات ردة الكل من الكل أو ردة الكل في اتجاه الكل.
صحيفة اليوم التالي
أ.ع