اشتد هذا الصراع وتحول إلى مساجلات سياسية ومنافرات فكرية خرجت من ساحة النشاط حتى إلى غرف سكننا ـ وقتها ـ في داخلية الشهيد الفاتح حمزة في حي العمدة، كنا نتنافر الساعات الطوال حتى فلق الفجر ـ أحياناً كثيرة، حيث لم تكفنا ساعات النهار وهي موزعة بين قاعات الدراسة والمكتبة وساحة النشاط.. كان النقاش والخصام والاشتباك أحياناً بالأيدي ـ عند فقدان المنطق والحجة ـ يدور حول قضايا الإسلام السياسي، وجدلية الصراع بين المركز والهامش، وحقيقة وجود نظرية كلية للاقتصاد في الإسلام، وقضية جنوب السودان، وما يدور فيها من قتال هل هي حرب سياسية أم حرب دينية؟ وهل ما يجري فيها من قتال هو جهاد أم اعتداء على أهل الجنوب؟ وما تقوم به الحركة الشعبية هل هذا تمرد على الدولة أم نضال من أجل نيل الحقوق؟ ومفهوم الهوية، وصلاحية وحتمية تطبيق الشريعة، بل وصل الأمر والصراع إلى نقطة أهمية تحرير الجامعة الإسلامية من قبضة وسيطرة الإسلاميين، وفك القيود في دستورها، ومنها مراجعة وإعادة النظر في مسألة الفصل بين الجنسين طلاب وطالبات، ومحاولات مستميتة لتجريم تجربة الدفاع الشعبي ـ ودورات أسامة بن زيد وقتها ـ ومحاولة إقناع الطلاب بأهداف «التجمع» الذي كان يفعل كل قبيح ضد الوطن في أسمرا!!
وتجمعنا مجموعة من الإخوان في التيار الإسلامي العريض وقتها، وقررنا أن نواجه خطر تلك الأفكار، وتلك الجمعيات المنطلقة من أهداف سياسية مخفية، وكانت منها جمعية تسمى «جمعية إبداع»، وقررنا في كلية اللغة العربية أن نعيد النظر في تطوير جمعية اللغة العربية التي ورثناها كدفعة في الكلية من الإخوان الصادق ساتي، الهادي إسماعيل ومحمد إبراهيم نيرة، والتيجاني وغيرهم في المكتب السابق، حيث كوّنا لها مكتباً تنفيذياً جديداً وجعلنا يوم الأربعاء من كل أسبوع منتدى لنا في ساحة النشاط نطرح فيه قضايا فكرية وثقافية في الفكر السياسي والإسلامي، والثقافة الإسلامية، وقضايا الأدب واللغة، وقد حققت هذه الجمعية نجاحاً كبيراً واستطعنا أن نجذب أنظار الطلاب وحشدهم يوم منتدانا، حتى بعض الأساتذة «والدكاتر» في هيئة التدريس.. وتطور المنتدى حتى صار حلبة «ملاكمة» بالفكر واللسان، واستطعنا أن نحرر عقول كثير من الطلاب من أفكار هدامة كثيرة، حيث كنا مجموعة من الإسلاميين أذكر منهم الإخوان بابكر محمد حسين، عبد اللطيف عبد الرحمن «الشاعر» متوكل التيجاني حاج إدريس، وأبو بكر التيجاني محمد الكاشف «رحمة الله عليه» ومحمد حامد، وآدم كارلوس، ومحمد أحمد داؤود، ومحمد عبد الله «المتنبي» وإبراهيم إدريس وغيرهم كثير، هؤلاء الإخوة وإخوة آخرون من كليات أخرى ـ بالتضامن ـ تصدينا ـ جميعاً ـ لتلك الأفكار والحقنا بها هزائم كبيرة حتى خارج الجامعة في جامعات أخرى، حيث صرنا نطارد العلمانيين والشيوعيين، حيثما حلوا في أية جامعة ما، وأقاموا ركناً للنقاش أو مناظرة، حتى صاروا يخشون الصدام معنا خارج الجامعة. وفي سنة 1999م حين حدثت المفاصلة الشهيرة، ضربت هذه المفاصلة الوحدة الطلابية للتيار الإسلامي في مقتل، وعمقت الجراح في الجانب الاجتماعي بين كثير من الطلاب الذين تآلفوا في ساحتي القلم و «الزناد» وتوزعت الجهود بين طائفتين «شعبي ووطني» ومنهم من اعتزل الفريقين محبطين ومغاضبين، ومأملين في وحدة الصف مرة أخرى.. وكنت من الذين اعتزلوا هذه الفرق كلها مع احتفاظي بعلاقات متوازنة مع الجميع، لأن مساحة العلاقات أرحب من الانتماءات المعينة.
وسقت هذه التقدمة ـ وأنا أصر أنها مجرد ملامح ـ وإلاّ فالتفاصيل فيها عميقة ثرة ـ لنصل إلى محطة كيف بعد هذا كله أتينا إلى منبر السلام العادل؟ ولماذا بعد هذا التجميد الطويل والانقطاع عن العمل العام عدنا مرة أخرى من بوابة منبر السلام العادل، وهل طاب المقام؟ وهل حققنا ما كنا نصبو إليه؟ تلك أسئلة الإجابة عنها فيها كثير من المضاضة والمرارة، ولكن كما وعدتُ من قبل أنها مجرد ملامح سنكتفي منها بالملامح من المتن والحواشي من «اللُّب» إلى حين، وهو حين من الدهر معّرف لن يطول كثيراً، فهو ليس نكرة غير معين.
حين بدأ «ماراثون» التفاوض في «أبوجا» و «ناكورا» ومشاكوس، حتى انتهى إلى ضاحية «نيفاشا»، وكانت في الخرطوم قد بدأت اجتماعات الجيل الأول من مؤسسي منبر السلام العادل،وكانوا من ألوان الطيف السياسي والفكري المختلف جمعتهم جميعاً تحديات تلك المرحلة المتمثلة في شبه التنازلات المستمرة التي كانت تقدمها الحكومة لحركة التمرد، التي كانت في أضعف أوقاتها لكنها وجدت سنداً كبيراً من قوى إقليمية ودولية أبرزها شركاء الايقاد واصدقاء الايقاد، وكما قرأنا فيما بعد وسمعنا وعلمنا أن هدف هذا التجمع «منبر السلام العادل» كان يتمثل في تشكيل مجموعة ضغط قوية تسهم في صناعة قرارات السلام والتفاوض بين الحكومة والحركة، ونشر الوعي لدى أهل الشمال السياسي بمآلات مستقبل السلام، والعمل على تماسك الجبهة الداخلية في الشمال والتمسك بالشريعة والهوية الإسلامية والعربية، ودعم صف جهود أهل القبلة، ودعم موقف القوات المسلحة والمجاهدين، حيث كانت الحركة تعتبر الدفاع الشعبي والشرطة الشعبية وتشكيلات المجاهدين التي شاركت القوات المسلحة في هزيمة الحركة الشعبية والتمرد في أرض المعركة، كانت الحركة تعتبرها مليشيات مسلحة، ولذا طالبت بحلها وتسريحها!!
البيان الأول الذي أصدره منبر السلام العادل تلاه دكتور بابكر عبد السلام على قناة «الجزيرة»، وتم توزيعه على نطاق واسع.. وكان البيان بتاريخ 11/اكتوبر 2004م بعد يوم واحد من انشاء منبر السلام العادل يوم 10/10/2004م واختيار دكتور بابكر عبد السلام المقبول أول رئيس له، بعد اثني عشر اجتماعاً تحضيرياً كان احد عشر اجتماعاً منها في منزل دكتور بابكر عبد السلام في بحري حي كافوري. واجتماع واحد في منزل د. عبد الوهاب عثمان ـ رحمه الله ـ وكانت قد سبقتها اجتماعات أخرى في الهيئة القومية للاتصالات وقاعة الشارقة ومتنزه الأسكلا، حيث قدم د. بابكر عبد السلام بياناً للإذاعة السودانية.
وجاء في اول بيان لمنبر السلام العادل ما يلي: «مازال منبر السلام العادل يرصد تطورات الأحداث في الساحة السياسية بكثير من الإشفاق الذي يتزايد يوماً بعد يوم مع تزايد وتيرة المكر والخداع التي تنتهجها حركة قرنق في سعيها لإحكام قبضتها على السودان، وإقامة مشروع السودان الجديد، الذي يستهدف الهوية العربية الإسلامية الإفريقية للسودان الشمالي».. هذه فقرة من البيان الأول حذرت من إقامة مشروع السودان الجديد، ودعت أهل شمال السودان السياسي لا الجغرافي إلى الانتباه إلى المخاطر التي تهدد هويتهم.. تلك دعوة وجدنا فيها ضالتنا التي أشرت إليها في معرض حديثي عن الصراع الذي كان دائراً وقتها في الجامعة الإسلامية بين طلاب التيار الإسلامي، وطلاب «تجمع أسمرا» الذي كان يحتضن قرنق وباقان بجانب الميرغني والصادق المهدي وغيرهما، ويضم طلاباً مستقلين وشيوعيين مندسين في تلك التجمعات، لذلك لما قرأت وعرفت وجهة تلك الدعوة، أعلنت فيما بعد انضمامي إلى منبر السلام العادل، وتلك كانت قصة مجيئنا إلى هذا التيار العام.
«يتبع».
صحيفة الإنتباهة
ع.ش