ومع مرور الوقت والانفتاح الذي واكب افتتاح مدارس البنات، وظهور وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وزيادة الوعي، وكذلك كثرة وقوع الطلاق بين الأزواج لعدم اطمئنان الزوج برؤية عابرة لخطيبته قبل الزواج فقد رضخ كثير من أولياء المرأة المراد تزويجها إلى هذا الطلب الملح، وصار شيئاً فشيئاً حقاً مكتسباَ لزوج المستقبل، الذي يرى فيه الصلاح والعزم الحقيقي على الزواج، فانتشرت الرؤية الشرعية التي ساهمت وبشكل كبير على نجاح العديد من الزواجات.
وقد ورد في حديث المغيرة أنّ رجلاً قال: يا رسول الله إني أريد أن أتزوج امرأة، قال: هلاّ نظرت إليها، اذهب فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما، ويقول جابر: إني خطبت امرأة فجعلت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دفعني إلى نكاحها، يعني: يختبئ لها حتى رأى مثلاً وجهها أو رأى يديها أو رأى ساقيها أو نحو ذلك مما رغبه في نكاحها قيل: إن ذلك يكون وهو مختبئ ينظر إليها وهي لا تشعر به، وعند الحنفية أنّ الفتاة أحوج للنظر من الشاب، أن تنظر لهذا الرجل الذي يريد أن يكون شريكاً لها في مسيرة الحياة الطويلة بأهدافها الكبيرة.
تحايل البعض من خلف الباب أو من السطح وأخذ ما يكفيه من النظرات.. لكنه كان صادقاً
شروط النظرة
تُعد النظرة الشرعية حقا للخاطب وحينما تتم ينبغي أن يكون المتقدم أميناً ولدية رغبة أكيدة في الزواج، بحيث إذا حصل القبول فإن الأمر ينتهي عند ذلك، أما حينما لا يحدث فلابد أن يكون هناك أمانة في عدم التصريح للآخرين بالسبب، كذلك لابد من إتمام هذه الخطوة في سرية تامة، فإذا حدث القبول يعلن لدى الجميع، وإن لم يحدث القبول لا يتم نشر الخبر، إضافةً إلى أهمية أن يكون الشاب لبقاً في إبداء الرفض، وأن يقول الكلام الطيّب الذي يجبر به الخواطر، وأن يبتعد عن التجريح، وغالباً ما يكون رد من لم ينشرح صدره للزواج بعد أن يرى المخطوبة ولم يجد فيها ما يرغبه بالاقتران بها مقتضباً، كأن يقول: “ما كتب الله نصيب” أو “البنت والله والنعم فيها، وأنتم حمولة طيبة ولكن أنا ما ارتحت”.
والبعض الآخر يخجل من مصارحة وليها، فيوكل الأمر إلى غيره، كوالدته التي توصل الخبر إلى والدتها، أو والده، وهكذا، وبالنظرة الشرعية يوفر الشاب على نفسه الخروج بنتائج غير محمود عقباها، وقبل وقوع الفأس بالرأس، حيث يحسم الأمر قبل إعلان الزواج، والدخول بالعروس، التي قد يتفاجأ بأنّها ليست على قدر طموحه، فيمسكها على مضض لعدة أيام أو أشهر، ومن ثم يطلقها فترجع إلى بيت أهلها جريحة المشاعر، وكم شهدت حالات طلاق بسبب عدم طلب الخاطب للنظرة الشرعية، أو منعه منها من قبل ولي المرأة، واكتفائه بوصف والدته وأخواته بمقاييس جمالها التي ربما لا تتطابق مع مقاييسه وطموحه، فيلقي باللوم على أهله بسبب وصفهم اللا معقول لها، والذي رآه في ليلة الدخول مخالفاً لما سمعه، فيبدأ الجدال معهم، والتوبيخ، وتتأرجح العلاقة لأيام وشهور، وتكون نهاية هذا الزواج الفشل، ويتوج بالطلاق.
“شختك بختك”
فيما مضى لم تكن النظرة الشرعية مطلوبة أو مقبولة وكان الناس في ذلك سواسية، فالكل كان زواجه عن طريق الوصف واختيار الأهل الذين كان لهم مطلق الحرية في الانتقاء من بنات الحي، والجيران، والأقارب، والأصحاب، وغالباً ما تنجح تلك الزواجات وتستمر إلى آخر العمر، وكان الزواج على طريقة “شختك.. بختك” وإن كان هناك مقاييس لزوجة المستقبل في ذلك الحين غير ما عليه الناس في وقتنا الحاضر، فليس الجمال هو مقياس كل شيء، بل كانت هناك اعتبارات أهم من ذلك بكثير وعلى رأسها “اظفر بذات الدين تربت يداك”، وأخلاق الزوجة، وقبل ذلك كله سيرة أمها فالمثل يقول: “انشد عن أمه.. إن كان تبغى تضمه”، ومن الناس من يرغب النسب من أصحاب النبوغ، والقوة، والشجاعة، والشهامة، والكرم، حتى ينجب نسلاً يسره، يرث تلك الصفات الحميدة والخصال الجميلة، وقد حفلت قصص التراث بمثل تلك القصص التي اقترن بها بعض الشباب ببنات أقوام ذاع صيتهم في تلك الصفات، ومن أبرزها: الفروسية، والشجاعة، والكرم.
عصير وبخور
من المواقف الصعبة التي يعيشها الخاطب هي لحظة دخول الفتاة عليه وهو في منزل أهلها قادماً لإتمام النظرة الشرعية بحضور وليها، فعند دخول الفتاة يستطيع الإنسان أن يسمع دقات قلبه من شدة ترقبه لهذه اللحظة التي ستحدد مصير زواجه منها إلى الأبد؛ لذا تجده متأهباً لنظرة عابرة لعله يرى فيها ما يسره ويدعوه إلى الإقتران بها، أما الفتاة التي ليست بعيدة عنه من هول هذه اللحظة الحاسمة في بناء علاقة زواج سعيد فتراها تدخل بخجل، وهي تحمل بين يديها المرتجفتين كوباً من العصير، أو مبخرة يفوح منها شذا العود، وتتقدم بخطوات ثقيلة وتقدم ما بيدها للخاطب، ومن ثم تعود أدراجها إلى خارج المجلس، والبعض منهن يجلسن بجوار والدهن أو أخيهن الأكبر برهة من الزمن، يسمعن بعض أسئلة الخاطب المقتضبة، ومن ثم يغادرن وهن يتنفسن الصعداء، وبعد إتمام النظرة الشرعية يذهب الشاب إلى حال سبيله، بينما تنتظر أسرة الفتاة رده بعد أيام بالموافقة أو الرفض، وغالباً ما تكون الإجابة هي الموافقة بعد أن يستخير.
على الطبيعة
من الناس من يأمر ابنته إذا خرجت على خطيبها لكي ينظر إليها النظرة الشرعية أن تكون على هيئتها الطبيعية، بعيداً عن التزين والتجمل أو لبس الثياب الجميلة أو الأحذية ذات الكعب العالي التي توحي بأنها طويلة على غير الحقيقة، وهدفه من ذلك أن يرى الخاطب ابنته على طبيعتها من دون تكلف في التزين والتجمل حتى لا يكون هناك غش له، والبعض من الخطاب إذا طلب من الولي رؤية البنت المخطوبة يبين عن رغبته هو أيضاً بذلك، وكم شهدت العديد من الزواجات الفشل رغم إقدام الخاطب على رؤية خطيبته قبل الزواج رؤية شرعية، لكنه تفاجأ بعد الدخول بها بعد أيام بأنها ليست المرأة التي قد رآها قبل الزواج، حيث كانت تختبئ خلف “المكياج” الذي يجعل من المرأة القبيحة الشكل ليست امرأة مقبولة الشكل فحسب بل جميلة أيضاً.
“ياليتني ما شفت”
أحد الخطّاب أصر على والدته أن يرى المرأة التي خطبتها له، وألح في ذلك وبعد تواصل والدته مع والدة الفتاة تم له ما أراد، وتم تحديد موعد للرؤية الشرعية، ولما دخل وشاهدته البنت التي تقدم لخطبتها هذا الشاب أصرت على عدم قبولها له، رغم أنّه كان سعيداً بعد رؤيتها، حيث عاد إلى والدته مبدياً موافقته على الزواج بها، ولكن بعد أيام جاءه الخبر من والدتها بأنّ ابنتها قد رفضت الزواج بولدها، رغم محاولاتها المستميتة للقبول به، فهو رجل صالح وفيه كل الخصال، والصفات الحميدة، ولما بلغت الوالدة ولدها بهذا الخبر السيئ الذي نزل عليه كالصاعقة، ندم كثيراً على إصراره على الرؤية الشرعية، وأصابه الحزن الشديد لذلك، وصار كلما تذكر تلك الحادثة يكرر “ياليتني ما شفت”.
تدخل الفتاة خجولة و«أبو الشباب» يقز من فوق إلى تحت ويقول:«اجلسي عندي كم سؤال»
يا ليتها عيّت وأنا بعد عييت وليت المملك يوم جيناه عيّا
حافظ على أسرار الرؤية ولا تصرّح للآخرين بسبب الرفض احتراماً لمشاعر الجميع
خاطب خجول
وليس الخجل هو من صفات الفتيات عند الرؤية الشرعية فقط، بل إنّ هناك من الشباب من كان أشد منهن خجلاً، فعندما تقدم أحد الخطاب لرؤية مخطوبته الرؤية الشرعية كان يتصبب عرقاً من هول هذه اللحظة، فلما دخلت الفتاة وسلمت وقدمت كوب العصير انصرفت من بين ناظريه، وهو ما زال مشدوهاً، ولما توارت عنه كان لا يزال في هول الصدمة، فهو لم يكد يرى، بل إنّه صار كأنه يحلم، فلم يكن قد شاهد أي شيء سوى طيف من خيال مر به على عجل، فخرج وهو يحدث نفسه “ما أمداني أشوف”، ولولا الخجل لقال لوالدها وإخوانها: ردوها علي كي أتمكن من رؤيتها مرة أخرى بتمعن وتفحص، ولكنه توكل على الله، ووافق على الزواج بها، وسارت أموره إلى أحسن حال، وهذه الحالة تتكرر كثيراً عند الرؤية الشرعية لكلا الجانبين.
حلوى الضيافة
كثيرة هي المواقف الطريفة التي تحدث عند الرؤية الشرعية، فمن ذلك أنّ أحد الشباب أراد أن يقترن بصديقة أخته، فقال لأخته: “إنّي أريد أن أراها قبل الخطبة، فأنا معجب بها وبأخلاقها من ثنائك عليها، ولكن أريد أن يطمئن قلبي بنظرة عابرة لها، وهو من حقي الشرعي، فلو وفرتِ على الجهد ودعيتيها إلى منزلنا لشرب القهوة لربما استرقت نظرة لها من بعيد وهي في المجلس”، وبالفعل وافقت الأخت على طلب أخيها ليقينها برغبته الأكيدة بالارتباط بها ولخلقه الرفيع، فدعتها إلى تناول القهوة، ولما حضرت إلى البيت جلست في مجلس الضيوف، وقدمت لها نوعاً فاخراً من الحلوى، وذهبت لإحضار القهوة، وفي هذه اللحظة تسلل الأخ، فحظي بنظرة خاطفة لها، ولكنه شاهدها وهي تأخذ بعض الحلوى وتضعه في حقيبة يدها، وهي تظن أنّه لا يراها أحد، وبعد أن انصرفت قال الأخ لأخته: “لقد أعجبتني”، فخطبتها له، وتم عقد القران، وفي ليلة الدخلة قال الزوج مداعباً زوجته بعد أن حادثها طويلاً: أين ذهبت الحلوى التي أخذتها من البيت عندما استظافتك أختي في منزلنا منذ شهر؟، فكاد يغمى عليها من هول المفاجأة والخجل، فضحك كثيراً وأخبرها بقصة رؤيته لها في تلك الليلة، وما فعلته، وإعجابه بها رغم هذه الحركة العفوية، فكان موقفاً محرجاً لها لن تنساه طوال حياتها.
زجاج عاكس
أما إحدى الفتيات فقد وقعت في موقف محرج أشد منه ولكنه طريف، وخلاصته أنّ أحد الشباب عزم على الزواج من أخت صديقه، ورغبته في مصاهرته، فوافق الصديق، وكالعادة طلب هذا الخاطب من صديقه رؤية أخته التي تقدم لخطبتها، فوافق أيضاً، وحدد له موعداً، وفي الموعد المحدد حضر هذا الصديق وجلس في ملحق البيت الذي كانت واجهته من زجاج عاكس، حيث كان يطل على مسبح، وبالفعل ما هي إلا لحظات وقد دخلت الفتاة، وسلمت على أخيها وضيفه، وقدمت القهوة، وخرجت على عجل، وبعد لحظات خرج أخوها ليحضر شيئاً من البيت، وبقي صديقه الخاطب لوحده في الملحق، ولما لاحظت الفتاة ذلك تقدمت من الزجاج الذي كان معتماً فلم تر شيئاً، فألصقت وجهها وهي تود أن ترى ذلك الخاطب جيداً، وصارت بالكاد تراه، فجعلت تلصق أنفها وفمها بالزجاج وتقوم بحركات لا إرادية، فتلصق خدها مرة، وترفع حاجبيها مرات، وتمرر فمها على الزجاج وهي تعبث، فتتغير ملامح وجهها؛ مما يدعو لمن ينظر إليها للضحك على هذه التصرفات، بينما هي مستمرة ومنسجمة، وهي تظن بأنّه لا يمكنه أن يراها، ولكنه في الحقيقة كان يراها وهي لا تراه فقد كان الزجاج عاكساً، ولما أحست بقدوم أخيها ولت إلى داخل المنزل هاربة، بينما كان الخاطب يكاد يموت من الضحك، وبعد أن تم الزواج أخبر الزوج زوجته بما رآه في تلك المقابلة، فكادت تموت من الخجل، وقال إنّ هذه الحركات هي ما شجعه أكثر على الاقتران بها، فقد نمت عن روح الفكاهة لديها.
جيل الفضائيات
بعض الشباب يسعى جاهداً لاختيار زوجة المستقبل وتحفى قدماه في البحث، ويتقدم إلى أكثر من أسرة خاطباً، ويجابه بالرفض أحياناً كثيرة، وبعد العديد من المحاولات يحظى بمن تقبل به زوجاً، وبعد الزواج تستقر أحواله، ومع انتشار الفضائيات، ومشاهدة الفنانات والممثلات الجميلات والفاتنات اللواتي أغرقن أنفسهن وأسرفن بالتزين والابتذال والتستر خلف “المكياج” الذي يخفي كل قبيح، يتحسر على عدم عثوره عن الجمال الذي ينشده في زوجة المستقبل، كجمال هؤلاء المغريات، فتراه يردد “ياشين العجلة” أو “ليتنا ما استعجلنا”، ونسي بأنّه هو أيضاً لا يملك من الجمال والوسامة ما يجعله مطمعاً للنساء، كما أن الخلق الرفيع وذات الدين خير له من ذات الجمال المزيف الذي غالباً ما يخفي خلفه الدلال، وفساد الخلق، وذهاب الحياء.
“ياليتها عيّت”
يقدم بعض الخطاب على الزواج دون النظر إلى المخطوبة، ويكتفي بوصف من حوله من قريباته من النساء لهذه العروس، ويتم الزواج ولكن البعض يندم على ذلك عند الدخول على زوجته التي لم يجد فيها الصفات التي كان ينشدها، ويتمنى لو أنّ الزمن يرجع به إلى الوراء؛ كي يطلب الرؤية الشرعية وينجو من هذا الموقف، ومن اقتراف أبغض الحلال إلى الله -الطلاق-، وقد صور أحد هؤلاء القدماء هذه المعاناة ببيت من الشعر، تمنى فيه أنّه امتنع من الزواج دون النظرة الشرعية، كما تمنى أنّ العروس امتنعت، وكذلك مأذون النكاح رفض إتمام الزواج، ولكنها أماني مستحيلة فقال في ذلك:
جريدة الرياض
خ.ي