لا أعتقد أن هناك دولة عربية توازي لبنان من حيث الجمال، فكل شيء في هذا البلد جميل: النهر والبحر والسهل والحجر والشجر والنساء، وتزور لبنان وتعجب كيف لا يقول جميع أهله الشعر، وتعجب أكثر لماذا اللبنانيون مصابون بلعنة الهجرة أكثر من غيرهم من شعوب المنطقة: كيف يترك إنسان وطنا بهذا البهاء ويتملطش في أركان الدنيا الأربعة؟ ومن عجائب هذا الشعب الذي فشل على مدى نحو سبعين سنة في إنتاج نظام حكم مستقر قابل للاستمرار، أن أبناءه الذين طفشوا منه واختاروا أوطانا بديلة صاروا من خيرة الحكام والوزراء في أمريكا اللاتينية.. اعتقد ان عينا أصابت اللبنانيين فصاروا لا يميزون بين الحب والحرب، وإلا كيف تفسر انهماك قياداتهم المزمنة في تحطيم هذا الوطن الجميل الذي كان يضيق بالسائحين فصار أهله يضيقون به.. بلد وهب الله أبناءه وبناته حناجر شادية مغردة وشعراء يستنطقون الصخر العصيّ، ولكن دوي الدانات والصواريخ صار يغطي على هديل الكمان والعود.
راوي حاج لبناني هرب من دياره في ثمانينات القرن الماضي طلبا للأمان والعيش الكريم، وحط رحله في نيويورك في حي موبوء بالمخدرات والعنف، وأكثر ما ألّمه وأحزنه أنه هرب من الجنون الطائفي في وطنه ليجد نفسه ضحية التمييز العنصري في نيويورك، وعندما قام بتقليب الأمر في رأسه توصل إلى استنتاج بأنه لن ينجو من العنف الطائفي في أي جزء من لبنان، فطالما اسمه راوي الحاج فانتماؤه الطائفي مكشوف رغم أنه لا يجاهر بانتمائه لطائفة ما.. ولو اختار اسم روبرت هاج تبقى مصيبة أكبر.. ولكن تفادي المتغطرسين العنصريين في الولايات المتحدة ممكن إلى حد ما بالابتعاد عن مناطق نفوذهم.. ثم جاءت مسألة أكل العيش، فعمل راوي جرسونا في مطعم بائس، ثم بائعا متجولا يدفع عربة يد فيها بضائع لا تساوي قيمتها مجتمعة أجرة الساعات التي يقضيها في الشوارع حتى لو حسب لنفسه أجرة قدرها دولارا واحدا عن كل ساعة عمل. ثم عمل سائقا في سيارة أجرة، وهو عمل لا يقبل به إلا شخص ذو نزعات انتحارية، لأن سائقي التاكسي في نيويورك يمارسون أسلوب الكاميكازي (طريقة انتحار يابانية بمنطق عليّ وعلى من حولي)، ولا يمكن ان تقود سيارة أجرة في تلك المدينة شهرا كاملا دون أن يشهر أحدهم في وجهك مسدسا أو سكينا، ولكن ولأن قيادة السيارات في بيروت أيضا تتم بالطريقة النيويوركية، فإن راوي حاج صمد في المهنة واستفاد منها في تحسين إلمامه بالإنجليزية، بل جعله الانتقال من مهنة بائسة إلى أخرى أكثر بؤسا مدركا لأهمية تعلم الإنجليزية.
وكرس راوي الكثير من الوقت والجهد لتعلم الإنجليزية، وفي عام 1992 هاجر إلى مونتريال في كندا ليدرس فنون التصوير التي كان بارعا فيها بالسليقة/ الموهبة، والتحق بجامعة كونكورديا حيث تعرّف على عدد من الفنانين، وذات مرة كلفه مدير متحف الفوتوغرافيا باختيار لقطات مصورة وكتابة ملاحظات عليها، وبدلا من الاكتفاء بالملاحظات جعل راوي من كل لوحة مادة لقصة قصيرة، ولما قرأ زملاؤه تلك القصص صاحوا: إيه دا يا راجل يا مجنون؟ كل دا يطلع منك؟ ولم يكونوا يدركون وقتها أن ما سـ«يطلع منه» سيهز جانبي المحيط الأطلسي، فقد أصدر رواية «لعبة دي نيرو» التي ترجمت إلى عشرين لغة وحصدت عشرات الجوائز ثم كانت رواية «الصرصار» ثم «كرنفال».. وصار الجرسون/ سائق التاكسي رمزا أدبيا عالميا. تخيل لو لم يهاجر راوي من لبنان: ربما كانت سيارة مفخخة ستهرسه كصرصار، ويحول قاتلوه جنازته إلى كرنفال.[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]