من دفاتر «غرامشي» إلى خطابات «العروبيين» و«الإخوان»

[JUSTIFY]أنطونيو غرامشي، مفكر إيطالي، ناضل كثيرا ضد فاشية موسوليني، مستلهما الثورة الروسية البلشفية، والنظريات الماركسية اللينينية. فاعتقل ما يقارب عشر سنوات، خرج بعدها مريضًا، ليموت شابا بعد خروجه بسنوات قليلة. تاركًا خلفه أشهر كتاب عُرف من خلاله عالميا وعربيا، “دفاتر السجن”، الذي كتبه خلال فترة اعتقاله. وهذا الأخير، هو ما يقود للحديث عن فكر غرامشي، وتأثيره عربيا بما حواه من مصطلحات من نوع “المثقف العضوي” و”الهيمنة الثقافية”. إضافة لتفريقه بين “المجتمع السياسي” و”المجتمع المدني”، وفقا لرؤية خاصة، تغلغلت كثيرًا في الخطابات اليسارية عموما، والقومية العروبية، وبعض حركات الإسلام السياسي و”الإخوان الجدد” خصوصا. فأين تلتقي هذه الخطابات مع غرامشي وأين تختلف، ولماذا غرامشي هو من استطاع التأثير في بعض هذه الخطابات كما لم يؤثر ماركس من قبله؟!

الهيمنة الثقافية

ولاستيضاح طبيعة “المثقف العضوي” تُذكَر مقولة غرامشي التي تتردد كثيرا في الخطابات المعجبة بفكره: “المثقف الذي لا يتحسس آلام شعبه لا يستحق لقب مثقف” ومقولة أخرى تنفي وجود طبقة اجتماعية خاصة بالمثقفين: “إن تصور المثقفين كفئة اجتماعية متميزة ومستقلة عن الطبقات الاجتماعية ليس إلا خرافة”.

ويقابل المثقف العضوي، في فكر غرامشي، “المثقف النخبوي” أو “التقليدي”، الذي يمجد السلطة، في أسوأ الأحوال، أو لا يتحسس آلام شعبه، في أحسنها. فهو يعيش في بروجه العاجية أو “البرجوازية”، التي يرى فيها غرامشي، طبقة اجتماعية سيئة، تُبرر وجود الرأسمالية وتغذيها، على حساب آلام طبقة العمال (البروليتاريا) ومظلومياتهم.

انحياز غرامشي لطبقة العمال، مفهوم، وفقا للسياق التاريخي الصناعي في أوروبا عموما، وفي إيطاليا خصوصا. ولكن استلهام انحيازه وإسقاطه على المجتمعات العربية وتعميمه على شعوبها بمختلف فئاته، مسألة تحتاج التمهل، بحسب بعض المفكرين العرب، ومع ذلك سارع كثير من الخطابات الأكاديمية أو القومية والإخوانية إلى تبني هذا الخطاب والترويج له بما يخدم أجنداتها الثقافية حاضرا، والسياسية مستقبلا.

وبرصد كثير من الخطابات القومية والإخوانية، يظهر كثير من التقارب، لما يدعو له غرامشي في تصوره عن “الهيمنة الثقافية” ودور “المجتمع المدني” الذي يتشكل من دور العبادة والتعليم والأندية الأدبية والثقافية والمؤسسات التربوية والتعليمية كافة. فغرامشي، بحسب دارسي فكره، ينتظر من المثقف العضوي، أن يكون أداة في يد مشروع أكبر هو مشروع الهيمنة الثقافية.

بحيث يتغلغل “المثقف العضوي” في هذه المؤسسات، ويسيطر عليها، بما أنه غير قادر، مؤقتا، على السيطرة على “المجتمع السياسي” بمؤسساته التشريعية والقضائية والعسكرية. ثم من خلال هذا التغلغل في هذه المؤسسات يمكن الوصول للسلطة (الحكم) والهيمنة على “المجتمع السياسي”. وهذا ما تختصره تماماً مقولته الشهيرة: “ليس هناك استيلاء على السلطة السياسية، دون الاستيلاء على السلطة الثقافية”.
الانقلاب الأيديولوجي

ولعل من أكثر الأمور التي يأخذها النقاد على فكر غرامشي، التي بالضرورة تؤخذ على من يتبنى خطابه، توظيف المثقف بما يتوافق والخطاب الثقافي الطامح للسلطة. فهذا الذي قد يكون خيارًا لمثقف دون الآخر، بحسب كثير من الخطابات الفكرية. هو في الخطاب الغرامشي ومناصريه، أمر حتمي تقرره عبارة غرامشي القطعية: “مهمة المثقف أن ينتقد السلطة”.

وهو ما توظفه أيضاً وتروج له الخطابات اليسارية بالعموم والإخوانية على مستوى الحركات الإسلامية على وجه الخصوص، بوصفها خطابات طامحة للسلطة، بجميع أنواعها؛ الثقافية والسياسية؛ توظيف، لا يخلو من إقصاء للمثقف الذي يخرج عن “النص الغرامشي”، إذ يقول غرامشي مشككا: “في الوقت الذي يبدو فيه المثقف النخبوي أنه يلعب دورا معرفيا، إلا أن هناك دورًا غامضا في تمجيد الديكتاتور”.

تكثيف عال وتوجيه محدد لوظيفة “المثقف العضوي” لا يقبل أي تنوع أو صمت أو تراخي، يقابله تشكيك وأدوار “غامضة” لكل مثقف مختلف، ما دام الهدف محاربة “هيمنة ثقافية” حالية واستبدالها بأخرى “غرامشية” تفضي إلى سلطة ثقافية وسياسية حاكمة. ما يُشبّهه بعض المفكرين بمحاولة “انقلاب” ثقافي أيديولوجي، لا يختلف كثيرا عن الانقلاب العسكري إلا في أدواته “الناعمة”.

وهو ما يدعو المفكر اليساري ميشيل فوكو في نقده للخطابات اليسارية عموما للقول: “لقد تناول الذي يقال عنه أنه من “اليسار” الكلمة لمدة طويلة ورأى أنه يجب أن يُعترف له بحق الكلام من حيث هو سيد الحقيقة والعدالة. كان الكل يستمع إليه، أو كان يزعم أنه مسموع إليه كممثل لما هو شمولي”.

ويضيف فوكو، حول ما يُبالغ اليسار في توقعه من “المثقف” وفي نقد مباشر على ما يبدو لفكرة المثقف العضوي، فيقول: “أن يكون المرء مثقفًا، بحسب اليسار، معناه إلى حد ما أن يكون ضمير الجماعة”. وهي الفكرة التي يعتقد فوكو أنها منقولة من الماركسية، بل من ماركسية “باهتة”على حد تعبيره. وهو ما لا ينكره غرامشي المفتون بالثورة الروسية، وبالخطاب الماركسي اللينيني. ولكنه أيضاً ما لا يدعيه، أو يقرّه، اليسار الإسلامي (الإخواني تحديدا) لعلمه التام، أن أي تقارب أو شُبهة تقارب مع الفكر الماركسي كفيلة بأن تنسف هذا الخطاب الشعبوي من جذوره.

وعلى العكس من امتداح غرامشي وأنصاره للمثقف العضوي، نجد فوكو، يرى فيه “مثقفًا شموليًا” تعبويا. لذلك يجترح مصطلحا آخر هو”المثقف الخصوصي” يتلاءم، برأيه، والظرف التاريخي الحديث. وهذا المثقف بحسب فوكو، تفرض عليه ظروف الحياة العصرية (ما بعد الثورة الصناعية)، التواجد باستمرار بين الجماعة، بحكم ضرورات العمل المكتبية الجديدة.

فلا حاجة إلى طبقة نخبوية محددة ينتمي لها المثقف، كما أنه أيضا لا حاجة إلى شمولية تعبوية من قبل مثقفين محددين، كما كان الوضع إبان الثورة الصناعية، التي كانت الطبقات الاجتماعية (العمال، الفلاحون، البرجوازيون، الإقطاعيون) فيها أكثر وضوحا، وتمايزا، ما جعل تواجد الخطاب الغرامشي، وغيره من الخطابات اليسارية له ما يبرره، مقارنة بعصور الحداثة وما بعدها، التي لا تستدعي كل هذا التمايز أو الحشد والتعبئة.

التسريع “الغرامشي”

“الفضاء العام”، مصطلح آخر يكثر استلهامه في الخطابات القومية والحركية الإسلامية، وهو الذي طوره المفكر الألماني “هابرماس” لاحقا، مستلهماً فكرته الأساسية من غرامشي. ويكثر استخدامه في معرض الاستيلاء على وسائل “الهيمنة الثقافية” من صحف ومقاه ومنابر دينية واجتماعية. فهذا الفضاء العام، تحديدا، يمكن القول إنه من أكثر مصطلحات غرامشي، التي لعبت على وترها الثقافي، هذه الخطابات.

إما باستدعائه بشكل “ضدي” كما فعل “غرامشي” نفسه، مطالبا العمال صراحة، في أحد مقالاته، بمقاطعة الصحف البرجوازية، ومسفّها كل ما يصدر عنها أو من يعمل معها. وهذا ما يتشابه اليوم مع سلوكيات “الإخوان” أو”القوميون” حين يحاولون، باستمرار، إثارة سخط شعبي تجاه ما يعتبرونه “صحافة رخيصة” أو “علماء سلطان” لا يمكن الوثوق بهم. أو بتطوير مصطلحات لما بشكل “إيجابي”، مستدعين الكثير من أفكار “هابرماس” الأكثر حداثة، وربطها بظهور شبكات التواصل الاجتماعي (تويتر، فيسبوك) للإعلاء من شأنها، كنوع من أنواع الفضاء العام الجديد، الذي يمكن من خلاله التأثير في الرأي العام (المجتمع المدني).

وفي المقابل، يستشهد البعض بـ “الربيع العربي”، الذي أعطى، بحسب منتقدي هذه الخطابات، دروسا ثقافية واقعية. فيما يتعلق بتحول الكثير من المفاهيم. فالرأسمالية لم تعد هي ذاتها الرأسمالية التي عاناها غرامشي، ولا حتى فوكو. والمجتمع المدني، أيضا، في عصر “العولمة”، لم يعد هو ذات المجتمع المستسلم لهيمنة ثقافية واحدة، أو القابل للاستسلام لهيمنة ثقافية أيديولوجية (حكم الإخوان). والمجتمعات العربية ليست شعوبًا عمالية، فقط، ولم تكن. وبالتالي فهي لا تنتظر من يُثوّرها مسرِّعا من “الحتمية الاقتصادية” التي بشّر بها ماركس. وهنا تكمن الإجابة عن السؤال الأهم حول ما ميّز خطاب غرامشي عن خطاب ماركس؟

غرامشي كان من اليساريين المؤمنين، بإمكانية تسريع حدوث هذه الحتمية الاقتصادية التاريخية التي ستُعلي من شأن “البوليتاريا” عن طريق الثورة، عوضا عن انتظارها. وكل ما سبق ذكره، من مثقفين عضويين، وآليات هيمنة، إضافة إلى التصورات الطبقية والنوعية للمجتمع ومدي تأثير فضاءاته العامة. هي تصورات نظرية، تدور في فلك هذا التسريع الثوري، الذي أغرى كثيرا من الخطابات الساعية لـ “التغيير السريع” بما فيها الخطاب الإخواني (الذي نتعرض له كحالة معاصرة نعايشها)، لأن تنهج نهجه.

الخطاب الغرامشي، بحسب دارسيه، ليس سوى خطاب “ماركسي ميكافيلي”، إشارة إلى رسائل غرامشي المتأثرة بميكافيلي: “الأمير الحديث”. وبالتالي هو خطاب حالم ومتسرّع، يليق بشاب مثل أنطونيو غرامشي، كتب أحلامه وقضاها في السجن. ولكنه لا يليق، ثقافيا، بخطابات أكاديميين ومثقفين يعيشون في أزمنة مختلفة، وفي ظروف مغايرة تماما.

صحيفة المرصد
خ.ي

[/JUSTIFY]
Exit mobile version