د. ناهد قرناص: عند لقائي العديد من السودانيين، في دولة الإمارات. فوجدت اغترابهم غير!

كنتُ أظنُّ -وليس كل الظن إثم- أنّ هناك نوعاً واحداً من أنواع الاغتراب. وهو أنْ يخرج الإنسان خارج وطنه، طلباً لرزقٍ أوفر، ووضعٍ أفضل. هذا يعني بالضرورة أنّ مَن تجدهم خارج بلادهم هم أبناء الفئة الفقيرة. أو يُمكن أنْ تجد هنا وهناك بعضاً من أبناء الطبقة المتوسطة المنقرضة طيّب الله ثراها.

وكانت أيضاً من ضمن اعتقاداتي، أنّ جُل حُلم المغترب، هو أنْ يبني منزلاً جميل المُحيا، حُلو التفاصيل. وأنْ يدخر بعض المال، ليكون له عوناً على نوائب الدهر؛ عند عودته للوطن، وذلك حتى يدخل في عجلة الحياة الدائرة في بلاده!
أقول، كنتُ أظنُّ وأعتقد، أنّ هذا مفهوم الاغتراب، عند معظم الشعوب، التي ابتلاها الله بِهَمْ الغربة والهجرة. ولكن الاغتراب عندنا، أصبح حمّال أوجهٍ!
تبادر إلى ذهني هذا الأمر، عند لقائي العديد من السودانيين، في دولة الإمارات. فوجدت اغترابهم غير!
في الإمارات، لا يسألك المغترب عن آخر أسعار السيخ والأسمنت. وكنت قد تسلّحتْ بهذه المعلومات قبل حضوري، بل اجتهدت لكي أجمع تفاصيل عن أسعار الأبواب، والشبابيك، وتوصيلات الكهرباء. ولكن ويا للخيبة، لمْ يطلب أحدٌ مني أيّة معلومة تخص البناء!
فأشارت لي [لمبة عبقرينو] أنّ المغتربين هنا، ظهر عندهم جِين متحوّر يُدعى: (قنعنا من خيراً فيها). وذلك بعد اكتشافي أنّ هَمْ سودانيي المهجر في الإمارات، هو تعليم الأبناء، ثمّ محاولة إيجاد فُرص عملٍ لهم بالخليج.
فصار عندنا تلقائياً الجيل الثاني من المغتربين، الذين لم يروا السودان إلا لماماً. ولا يعني لهم غير أنّه وطن الجدود. وتجد أحدهم عندما يذهب السودان لإجازةٍ، ويعود إلى مهجره، يكتب في صفحته في الفيس (هُوم سويتْ هُوم)!
أثار فُضولي هذا الأمر، وتساءلت سؤالاً مشروعاً: ترى هل تحوّل المغترب السوداني – بقدرة قادر الى مُهاجر؟ وهل سيكون هناك جيلٌ جديد، فيهم مَنْ يُدعى شعراء المهجر، وأدباء المهجر؟

الشئ الغريب، أنّ هناك شبه إجماع على هذا الأمر، فعلمتْ أنّ هذا الجِينْ المتحوّر، يبدو أنّه جِينٌ سائدٌ على غيره من جينات الحنين إلى السودان. وصار مَنْ يتحدّث عن موضوع العودة الطوعية، ينظر إليه البقية، وكأنّه به مسٌ من الجُنون، ويدعون له بالشفاء العاجل، الذي لا يُغادر سقماً. بل المضحك والمبكي، أنْ يسألك الكثيرون: لماذا تظل أنت متواجداً بالسودان؟
فصار الخروج هو القاعدة، والمكوث في الوطن هو الإستثناء. والله يجازي اللي كان السبب!

عليه أمسى إقتراحي، الذي أعلنته على مغتربي السعودية، وهو عمل نسخة من كل مغترب، لقضاء الإجازة في السودان، غير ذي جدوى في الإمارات. فلذلك سيكون إستثماري هنا هو عمل متحف به لمحات من السودان، وأشياء تعريفية عنه، وربما استطعنا عمل أجنحة بها كهرباء قاطعة، وشُويّة موية عكرانة. وذلك لكل من تُحدّثه نفسه بالعودة غير الطوعية، أو يصاب بمتلازمة (الحنين إلى الوطن) المرضية!
وستكون لافتة الجناح هي أغنية: (بعد دا كلو كمان بتشكي/ ما كفاية الشفتو منك/ والله أكتر من ببكي).

د. ناهد قرناص

Exit mobile version