الشيوعيون مثل غيرهم من التنظيمات السياسة في السودان توسموا درب السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية رغم الجدل الحامي في لجنتهم المركزية بضرورة اعتزال صنيعة الضباط الأحرار

[JUSTIFY]منذ تأسيسه في منتصف أربعينات القرن الماضي وظهوره في سماء السياسة السودانية ارتبط الحزب الشيوعي السودانى بالجماهير بعد أن بدأ نشاطه الفعلي عام 1946 تحت اسم الجبهة المعادية للاستعمار والتي عرفت لاحقاً باسم الحركة السودانية للتحرر الوطني التي تم اختصارها فيما بعد باسم (حستو) التي أفلحت في توحيد الحلقات الأولى من الشيوعيين الذين كانوا يعملون دائماً مع الجماهير من أجل الاستقلال. حيث أفلحوا مع بقية رفاقهم في الأحزاب الأخرى والشعب السوداني في تحقيق الهدف الذي أصبح واقعاً بعد عشرة أعوام من تأسيس الحزب العتيق.
وبعد أن تحقق الاستقلال بفضل نضالات الشعب السوداني وأحزابه السياسية، حفر الحزب الشيوعي السوداني لنفسه نفقاً سرياً مع العسكر، وفي تلك الفترة كان للقوات المسلحة دور رئيسي في حسم الصراعات السياسية عبر الانقلابات العسكرية على الأنظمة الموجودة، وما يؤكد هذه الخطوة التي أقدم عليها الفريق إبراهيم عبود بعد أن قام بتنفيذ أول انقلاب عسكري في السودان. حيث كان بدعوة من رئيس الوزراء الراحل عبد الله خليل في الحكومة الديمقراطية الأولى عام 1958 ومنذ ذلك الحين بدأت الأحزاب السياسية بتأسيس علاقات سرية مع القوات المسلحة بهدف الوصول للسلطة عبر الانقلابات العسكرية والحزب الشيوعي السوداني كان من بين تلك الأحزاب، وبالعودة لفترة ما بعد الاستقلال والتي برز فيها إلى السطح تنظيم (الضباط الأحرار) داخل القوات المسلحة، وبحسب بعض المتابعين أن هناك ثمة علاقة وطيدة بين هذا التنظيم والحزب الشيوعي السوداني وضباطه داخل القوات المسلحة.
صفة أنه حزب انقلابي، ظلت تلاحق الحزب الشيوعي السوداني منذ فترة طويلة لجهة أنه بحسب الحقائق التاريخية أول الأحزاب السياسية السودانية التي قامت بانقلاب، والدليل على ذلك أنه دبر محاولة انقلابية شارك فيها الملازم أول وقتها محمد محجوب شقيق الراحل عبدالخالق محجوب وحاول الإطاحة بنظام عبود الذي استلم السلطة بانقلاب عسكري في 17/ نوفمبر 1958 والذي يعضّد هذا الزعم ما قاله عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني الدكتور الشفيع خضر حينما قال في رده على هذا الاتهام (نعم شاركنا في محاولات انقلابية تمت ضد نظام 17 نوفمبر) والملازم أول محمد محجوب بخلاف أنه شقيق الراحل عبدالخالق محجوب تاريخه كان معروفاً وواضحاً باعتباره كادراً شيوعياً عمل ضابطاً في القوات المسلحة.
وثمة من يرى أن أول جناح عسكري لحزب داخل الجيش أنشأه الحزب الشيوعي السوداني، كما يمكن القول إن كل القوى السياسية القديمة اشتركت بهذا القدر أو ذاك في تكوين خلايا لها في القوات المسلحة، غير أن حقائق التاريخ تقول إن (أحمد سليمان ومعاوية إبراهيم) كانا مسؤولين من الجناح العسكري للحزب الشيوعي السوداني، وأن السكرتير العام للحزب الشيوعي الراحل محمد إبراهيم نقد قال في أحد حواراته الصحفية (نعم كان لنا ضباط وضباط صف في الجيش) والأمر ذاته أكده عضو اللجنة المركزية بالحزب الدكتور الشفيع خضر حينما اعترف في حوار سابق له وقال: (نعم كان لنا ضباط وضباط صف في القوات المسلحة وكان لنا تنظيم داخل القوات المسلحة، وذلك لاعتبار أن القوات المسلحة مؤسسة لها علاقة بالحراك الاجتماعي السياسي في البلد، وهي مؤسسة مكونة من أبناء الشعب، وبالتالي كان لنا تنظيم بداخلها).
وما يؤكد زعمنا بأن الحزب الشيوعي حزب انقلابي هو قيامه بتنفيذ انقلاب 25 مايو1969 وخروجه في موكب تأييد للانقلاب في اليوم الثاني وتعيين(4) من أعضائه وزراء في الحكومة الأولى بعد الانقلاب، كما أن هناك اثنين من أعضائه في مجلس قيادة الثورة، والحقائق التاريخية تؤكد أن أعضاء الحزب الراحل (هاشم العطا) والراحل (بابكر النور) كانا أعضاءً في الحزب الشيوعي السوداني، فضلاً عن أنه كان هناك أكثر من وزير من الحزب الشيوعي السوداني في حكومة مايو، إلى جانب أن برنامج 25 مايو كان مستمداً من البرنامج العام الذي كان يطرحه الحزب الشيوعي آنذاك، غير أن الحزب الشيوعي ينفي تدبيره وتنفيذه لانقلاب مايو، ويؤكد أن الذي دبر ونفذ الانقلاب هو تنظيم الضباط الأحرار الذي كان يغلب عليه الطابع اليساري أو التقدمي والذي كان الحزب الشيوعي عضواً فاعلاً فيه.
ولكن هناك حقيقة مفادها أن الحزب الشيوعي قام بتأييد الانقلاب بعد حدوثه، لكنه لم ينفذ الانقلاب ولم يدبر انقلاب 25 مايو. وفي ذات المنحى الانقلابي والتهم التي تلاحق الحزب أكد الدكتور عبدالله علي إبراهيم في إفاداته في سفره الموسوم (سنوات في دهاليز الحزب الشيوعي) أنه في اجتماع اللجنة المركزية الذي أعقب انقلاب 25 مايو رأى عبد الخالق محجوب أن يعتزل الحزب الشيوعي الانقلاب، ولكن صوتت اللجنة المركزية بغير قرار الاعتزال وبعدها أصدر الحزب بياناً يناصر فيه انقلاب مايو وقام بتأييد الانقلاب.
وفي ذات السياق الانقلابي، تورط الحزب الشيوعي مرة أخرى في انقلاب 19 يوليو، وبعد أن نفذ الانقلاب وعاش لمدة ثلاثة أيام وفي 22 يوليو خرجت مسيرة لتأييده وكانت الهتافات يومها(سايرين سايرين في طريق لينين) وشُوهد عبدالخالق محجوب في المسيرة حسب بعض الروايات، وتؤكد بعض الحقائق التاريخية التي ذكرها عضو اللجنة المركزية الدكتور الشفيع خضر أن مجموعة الضباط الشيوعيين وحلفاءهم داخل تنظيم الضباط الاحرار رأوا أنهم ينفذون انقلاباً لتصحيح مسار انقلاب 25 مايو وأنهم اتصلوا بالحزب والذي بدوره طلب منهم مناقشة هذا الأمر، وأن يؤجل التنفيذ إلى أن تتم مناقشته في اللجنة المركزية، وأشار الشفيع إلى إفادة للراحلين محمد إبراهيم نقد وعبدالخالق محجوب قالا فيها إنهما ضرب موعداً محدداً يتم فيه الالتقاء بين ممثلين عن قيادة الحزب والضباط الأحرار، غير أنهما أكدا الرد العملي بدلاً من أن يلتقوا الضباط الأحرار بالحزب. حيث قاموا بتنفيذ الانقلاب قبل أن تجلس اللجنة المركزية وتقرر بشأن الانقلاب، ولكن هناك حقيقة مفادها أن الحزب بعد الانقلاب قام بتأييد انقلاب 19 يوليو وهذا حدث فعلاً وخرجت مسيرة في الشارع تؤيد الانقلاب.
وما حدث للحزب الشيوعي السوداني في انقلابي 25 مايو و19 يوليو هو أنه في مايو انقسم الحزب إلى جناحين بقيادة كل من (عبدالخالق محجوب) المتنصل من مايو و(أحمد سليمان) الذي ظل مناصراً لمايو، وفي انقلاب يوليو انقسم جناح عبدالخالق نفسه إلى جناحين أحدهما مؤيد للانقلاب والثاني معارض له الأمر الذي يؤكد أن الانقلابات التي قام بها الحزب أثرت تأثيراً كبيراً على مساره وتاريخه العريق، ولم تقف التأثيرات عند هذا الحد، بل ظل الحزب الشيوعي متهماً بأنه بعد فشل انقلاب 19 يوليو أعدم (19) ضابطاً عُزَّل بقصر الضيافة ورغم أن الأمر خضع لتحقيق كبير وتكوين لجنة برئاسة القاضي (علوب) والتي أعدت تقرير، لكنه حتى الآن لم ينشر ومالم ينشر التقرير ويؤكد تمام تبرئة ساحة الحزب الشيوعي سيظل متهماً بتنفيذ مجزرة بيت الضيافة لجهة أن هناك ضابطاً يزعم أنه ينتمي للحزب الشيوعي وكان يحرس الضباط في بيت الضيافة متهم بأنه نفذ العملية.
الحزب الشيوعي السوداني بدوره قام بتقديم نقد ذاتي ومراجعات لتجربته في مايو ويوليو، وفي أول ليلة سياسية جماهيرية كانت في يوم 2 مايو 1985 بعد الانتفاضة وكانت وقتها بالميدان الشرقي بجامعة الخرطوم، تحدث فيها الراحل محمد إبراهيم نقد، وقال: نحن أخطأنا في تأييدنا لانقلاب 25 مايو وأخطأنا في أننا صمتنا عن ممارسات تمت في 25 مايو باسم التحالف مع حركة الضباط الأحرار. وهذا كان أول نقد جماهيري علني بصوت قائد الحزب آنذاك، وجميع وثائق الحزب التي تم نشرها فيما بعد فيها كثير من النقد، وحول 19 يوليو أصدر الحزب كتيباً حولها وحول ما تم فيها.
وقبل ثلاثين يونيو 1989 هناك حديث مفاده أن هناك عدداً من التنظيمات داخل الجيش كانت تتحرك نحو السلطة، من بينها تنظيمات الحزب الشيوعي وحزب البعث وهذا الأمر أكده عضو مجلس ثورة الإنقاذ الوطني العميد (م) محمد الأمين خليفة، وعضّده عضو مجلس ثورة الإنقاذ الوطني العميد(م) صلاح كرار حينما أكد أن الشيوعيين كان لهم تنظيم داخل الجيش، ورئيس تنظيمهم كان يعلم بتحركات العميد عمر البشير وخلفيته الإسلامية ونيته القيام بانقلاب.
غير أن الحزب الشيوعي نفى أن يكون لديه تنظيم داخل الجيش كان يتحرك نحو السلطة، واعتبر الحديث محاولة ساذجة لتبرير انقلاب الإنقاذ، ولكنه أكد أن لديه قيادة مدنية تحركت بتوجيه من الحزب إلى رئيس الوزراء آنذاك السيد (الصادق المهدي) وأخبرته عن وجود تحركات داخل القوات المسلحة وتحديداً من الجبهة الإسلامية القومية للاستيلاء على السلطة. وأكد الحزب في حديث سابق لعضو لجنته المركزية الدكتور الشفيع خضر أنه لم يعد التفكير الانقلابي جزءاً من تفكيره وأنه ليس لديه تنظيم داخل الجيش حتى ينفذ به انقلاباً على النظام القائم، ويرفض جملةً وتفصيلاً أي تفكير انقلابي للوصول إلى السلطة.

صحيفة اليوم التالي
أ.ع

[/JUSTIFY]
Exit mobile version