خدمات شخصية جداً: ابتزاز الفتيات مقابل وظيفة

[JUSTIFY]خرجت من منزلها ترفل في ثياب أنيقة وتضع عطراً هامساً يوشوش للعابرين، هذا العطر وتلك الثياب يمنحناها ثقة كبيرة في نفسها، يجعلانها تعمل بإتقان وحُب، لكنها لم تسلم من معاكسات الشارع ولا من مضايقات المواصلات، إنهم يعكرون مزاجها العطري الموشى بثوب قشيب، لن تدعهم ينتزعون ثقتها بنفسها، سوف تقاوم هذا الهراء المجاني. حتى وصلت إلى مكتبها في تمام الثامنة صباحاً، بدأت تُرتب البرنامج اليومي لمُديرها، وترصد تقاريرها بحرفية وحنكة وجذق مُتجاوزة معاكسات صباحات الخرطوم ونظرات السابلة الحارقة، إنها امرأة تعق عملها حد الوله والجنون.
ورقتان مصيريتان
أسلمت نفسها لذراعي العمل، وكرست جهدها ترصد ما بين الملفات الخضراء الداكنة، وبينما هي غارقة كمجذوبة في (نوبة صوفية)، قطع عليها مديرها استغراقها ملقياً عليها التحية. اتجه نحو مكتبه، وبالتفاته صغيرة نادى عليها (منال تعالي)، تبعته ولم يكن في حسبانها أن ثمة رغبه ملعونة تشعل دواخلة، لم تفكر يوماً واحداً في أنها ستتعرض للابتزاز، لكنه وضع أمامها ورقتان كي توقع عليهما إما زواج عرفي أو استقاله، مار رأسها وكاد أن ينفصل عن عنقها الجميل، رفضت أن توقع على أي منهما ولاذت بالبكاء حد الشهيق.
الخروج الكبير
إن خروج المرأة للعمل في المجتمع السوداني لم يكن أمراً سهلاً، كانت دونه أهوال ونضالات مريرة، ولكن في الآونة الأخيرة استجدت أوضاع لم تكن في حسبان الأسر، إما أن يخرج جميع أفراد الأسرة إلى العمل أو يلاقوا معيشة ضنكة، هذه الأوضاع جعلت إقبال النساء على العمل في كل المجالات حتى (الأسواق)، يتزايد يوماً بعد يوم، وأضحى البحث عن وظيفة بالنسبة للفتيات – أكثر إلحاحاً من أي شي آخر حتى الزواج، وغالباً ما يكون خروجهن في طلب الرزق بجانب أنه حق انساني – بسبب حاجتهن الملحة للعمل، وقد قوبل هذا الخروج النسائي الكبير في بادئ الأمر الكثير من المعارضة والرفض والحرب والإقصاء حتى أصبح الآن مفخرة للأسرة والمجتمع، لكن رغم كل ذلك لم تسلم النساء العاملات من الانتقادات والشائعات.
بنات المصانع
فضلت حجب اسمها، قالت بطريقة يكتنفها شيء من الاشمئزاز: إن كل القتيات اللاتي يعملن عموماً، معرضات للابتزاز في الشارع العام ومكان العمل، وفي صلب الموضوع أشارت إلى أن مديري العمل هم السبب الرئيس في هذه الظاهرة لأنهم يعملون على فرض شروط وصفتها بالشهوانية على كل من تتقدم إلى وظيفة. وأردفت: كنت أعمل في أحد مصانع المواد الغذائية بالسوق الشعبي أم درمان، وكنت سمعت بالكثير من القصص التي تقشعر لها الأبدان، لكنني لم أكترث، إذ لم أضع في مخيلتي أن هناك من يفكر بهذه الطريقة، ولجت العمل، ولكنني سرعان ما فوجئت وفجعت باستدعاء المدير لي مرات عديدة في اليوم إلى أن ابتزني بعدد من العروض المغرّية التي أوضح لي فيها رغبته في الزواج مني عرفياً، لكنني رفضت فما كان منه إلاّ أنه هددني بالفصل عن العمل. تواصل: كنت في تلك الفترة في أمس الحاجة إلى المال كي أواصل وأكمل دراستي، فشعرت بأنني وقعت في جحيم من لا يرحم، وضعني الرجل بين خيارين أحلاهما مر، ففضلت الفصل. وأشارت في حديثها إلى أن كثيراً من الشباب يشيعون فيما بينهم أن من تعمل في المصانع تعمل من أجل شيء آخر غير المال، ويؤكدون أن ما يدور في أماكن العمل يعضد ذلك.
الضحية الأولى
ناهيك عمن يتطاولون بألسنتهم ويطلقونها في المجالس ينهشون عروض النساء العاملات، ويلوكون ما يدور في المكاتب يمضغونه مثل علكة ثم يقذفون بها بعيداً غير آبهين، تعلو أصواتهم بالجدل دون أن يراعوا أن كل بيت سوداني لا يخلو الآن من موظفة أو اثنتان سواء في قطاع الحكومي أو الخاص، ورغم ذلك فإن بعض المسؤولين والموظفين الكبار في مختلف المؤسسات يستغلون سلطاتهم ونفوذهم وحاجة الفتيات إلى العمل ولهفتهن له، فيعرضون عليها الوظيفة مقابل (خدمات شخصية جداً).
القوانين لا تطبق والمرأة مشترية
وفي هذا السياق تحدثنا إلى الدكتور (خليل مدني) أستاذ علم الإجتماع بجامعة النيلين، فقال: إن هذه الظاهرة ليست حصرية على المجتمع السوداني بل تسود كل المجتمعات العربية والغربية، وأشار إلى أن مسؤول صندوق النقد الدولي كان تعرض لعقوبة رادعة بسبب تحرشة بموظفة تعمل فندق، ولكن تبقى الفوارق ما بين المجتمعات في تطبيق القانون. فالسودان لا يطبق قوانين التحرش، لذا فإنه في نهاية الامر تلصق التهمة بالموظفة، ويخرج مديرها من الأمر كأن شي لم يكن. وشدد (مدني) على أن المجتمع والقانون لا يقضيان على الظواهر المسكوت عنها، لكنهما مع مزيد من الضغط يقللان من حجمهما، وستبقى سمعة الموظفة هي الأكثر في المحك ما لم يهرع الجميع إلى ميثاق غليظ، أخلاقي وقانوني، وميثاق ضمير حتى يقللون من ظاهرة الابتزاز المتفشية في المؤسسات كلها، كما على الفيتات أن يقاومن ولا يستسلمن لذلك، لأن بعضهن قد يقبلن به بسبب ظروفهن وحاجتهم الماسة للعمل.
إلى ذلك، نوّه (مدني) إلى هنالك من تزج بنفسها في جحيم التحرش بلبسها أو عطرها أو حتى طريقة كلامها، وأن هنالك من لا تأبه للتحرش من مديرها أو من غيره. وأضاف: مع أنه وبكل المعايير لها الحق في رفع دعوى ضده تعيد لها حقها قانوناً، وعدّ (مدني) مثل هذه الظواهر ضمن قائمة المسكوت عنها، إذ أن الجدل حولها محفوف بالمخاطر بحكم أن المجتمع السوداني تقليدي، وحقوق المرأة فيه مهضومة، إذ لا زال كثيرون يعدونها جزء من ممتلكاتهم الخاصة.

صحيفة اليوم التالي
أ.ع

[/JUSTIFY]
Exit mobile version