ثمة أسئلة ملحة تقتفي أثر ذياك الصمت وضجيج حركة الشارع، فهل هنالك ما يستدعي التعليق أكثر من اعتقال الإمام الصادق المهدي وإيداعه الزنزانة التي أخلاها الشيخ منذ أشهر!؟.. ألا يسجل اعتقال صهره دافع منطقي للحديث؟.. يهدي على الأقل المشاعر المضطربة بخصوص مستقبل الحوار والتعافي الوطني، والذي يمثل الشيخ فيه دور (التوربينة) المولدة.. حسناً إذا كان أمر الصادق بخلفيات الخصومة الأبدية والغيرة السياسية يستوجب الصمت، فما بال الشيخ لا يعلق على محاكمة الدكتورة مريم يحيى بتهمة الردة، وهو بالخصوص له رأي مسبق بأن المرتد لا يُقتل، إذا صح أنها مرتدة بالأساس، لا أحد بالطبع يملك الإجابة، ولكن ثمة من يرد بأن الشيخ (راقد فوق راي)، والذين يقولون بذلك يحاولون فك شفرة عبارة غامضة ظل يرددها الشيخ في الأيام الأخيرة (أبشركم بالخير).!
آخر ظهور للترابي كان في عقد قران ابنة وزير الدفاع الفريق عبد الرحيم محمد حسين، بعدها وفيما رشح من معلومات أنه سجل زيارة للرئيس البشير في مستشفى رويال كير للاطمئنان على صحته قبل وربما بعد مغادرته المستشفى، المؤكد جداً أن الترابي ظل كعادته يصحو مبكراً من نومه، ويؤدي صلاة الصبح في موعدها ويتلو القرآن ثم ينام نحو ساعتين، ثم يصحو ويطالع الصحف ويتناول وجبة الإفطار، ومن ثم يقضي بعض الأمور في معية الأسرة ويستمع إلى تقارير من أمناء وقادة المؤتمر الشعبي ويلتقي ببعض الشخصيات المهمة، وفي الظهيرة يشاهد المحطات الفضائية الأخبارية، بالخصوص (الجزيرة) و(البي بي سي) ثم ينكب على الكتابة لفترة طويلة قبل أن يخلد للنوم زهاء الساعتين وبعيد ذلك يتناول وجبة الغداء ويباشر برنامجه الرسمي، وفي المساء يشاهد الأخبار ويقرأ بعض الكتب، ثم يعود ثانية إلى الكتابة، ويحرص على النوم باكراً، هذا هو البرنامج الاعتيادي للرجل حتى أيام المعتقل، لكن في الظروف الطبيعية تطرأ عليه تغييرات تقتضيها وطأة الحراك الاجتماعي والسياسي..
الراجح في الأمر أن الشيخ يعمل بجد على ترتيب أوراق العملية السياسية، وتهيئة المسرح الوطني لمرحلة انتقالية ظل يدفع نحوها لأشهر، تصوراته للمستقبل نقلته من خانة المعارض المزعج للنظام والمؤرق لأجهزته الأمنية إلى مندغم في الوثبة ومتعاون ومعين للخروج بالبلاد من كبواتها وضخ الأكسجين في رئة الحركة الإسلامية.. فجأة تتهاوى قلاع الكراهية السياسية، وتتقلص المسافة بين القصر والمنشية لدرجة الالتحام حتى بدا للبعض أن المفاصلة محض مسرحية، وقد قرر الممثلون كسر إطار الشخصية الدرامية والتحلل من أدوارهم الافتراضية، لكن غليان الشارع، وتناسل الشائعات، ومحاولة نظم الخيوط المتناثرة، ما بين اعتقال المهدي ونشر لواءات قوات الدعم السريع حول الخرطوم، والعملية الجراحية التي أجريت للرئيس البشير، بجانب اصطراع مراكز القوى داخل الوطني وتدفق ملفات الفساد، كل هذه الخيوط يجتهد البعض في جمعها واستخلاص نتيجة رياضية محددة، نتيجة ربما تجيب على ما أثاره الإمام الصادق المهدي عقب التغييرات الأخيرة بالقول: (دي المناظر ومنتظرين الفيلم)، الفيلم الذي انتظره المهدي ربما يكون الترابي قد وضع لماساته الأخيرة وأشرف على عملية المونتاج، لكن في الجانب الآخر هنالك من يربط صمت الترابي بدواعٍ حزبية، لأن الرجل جاذب للأضواء ولديه سطوة ومقدرة على إرباك المشهد، وتغيير وجهة الإبحار _أياً كانت_ وبما أن هنالك خطة معدة من قبل المؤتمر الشعبي للوصول بالحوار إلى مبتغاه، فإن أيما حديث يمكن أن يربك تلك الاستراتيجية يفضل أن يظل حبيس الجدران والضلوع، بينما هنالك رأي ثالث يتخوف من تحوير حديث الشيخ في الإعلام.. ما قد يتسبب في ردود أفعال مباغتة، ربما يساق بسببها الترابي إلى السجن، سيما وأن تصريحاته النارية هي التي أودعته الزنزانة لأكثر من مرة.
ومع ذلك هنالك من يصور للناس بأن الترابي يعد لبشرى سارة ومفاجأة كبيرة، وقد تخير قضاء حاجته بالكتمان، الذين يرجحون ذلك الاحتمال يستدلون، بأن الترابي لا يحب أن يضرب حوله سياج من السرية إلا إذا كان في شغل عظيم، يخشى عليه من التشويش، نفس الظروف والملابسات صاحبت محاولة “تاتشرات” حركة العدل والمساواة اقتحام أم درمان في العام (2005)، وكذا عندما أعلنت السلطات عن إجهاض محاولة انقلابية بطلها العميد ود إبراهيم، ساعتها لم يعلق الترابي، وإنما لزم داره وأمسك لسانه تماماً، وقد نبه قادة حزبه بعدم التعليق، وقد ذهب البعض ساعتها إلى أن الترابي كانت لديه معلومات كافية بخصوص المحاولة الانقلابية قبيل حدوثها، وربما مكنته قدراته الاستشرافية وخبرته في قراءة المسرح السياسي على اكتشاف أمر المحاولة، فهو كزرقاء اليمامة كما يردد المقربون منه، دائماً ما يرى شجراً يسير، إن لم يكن هذه المرة هو ذاته الشجر الذي يسير.!!
صحيفة اليوم التالي
أ.ع