غربة في الغربة

غربة في الغربة
[JUSTIFY] ما زلت أعيش حالة الانتشاء بإكمال أصغر عيالي تعليمه الجامعي وعودته إلى حضن العائلة بعد اغتراب دام أربع سنوات (قبل أن نشبع منه ونبِلّ شوقنا إليه أراد المفتري أن يناقش معي خياراته للدراسات فوق الجامعية، فقلت له: احترم نفسك)،.. كان قدري مثل عشرات وربما مئات الآلاف من بني وطني أن ندخل تجربة الغربة داخل الغربة، فأنت مغترب عن وطنك لدواعي أكل العيش، ويكبر عيالك ويغتربون في غير البلد الذي أنت فيه، إما لدواعي الدراسة وإما للعمل، فتعيش التمزق العاطفي، وأنت ممزق أصلا لبعدك عن أهلك المرابطين في الوطن الذي لم يتسع لك، حتى المغتربون السودانيون في دول الخليج العربي وغيرها الذين يوفدون عيالهم إلى السودان للدراسة يعيشون ذلك التمزق، لأن العائلة تصبح مقسمة: الأب بمفرده أو بعض العيال معه في المهجر، والأم في السودان لـ «تحرس» وترعى من يدرس/ تدرس هناك، ويعيش الجميع حالة من الهرولة المستمرة، فالأب يحرص على أن «يطل» على عياله كلما أسعفته الظروف، والعيال الذين يدرسون في السودان وأمهم لابد أن يزوروا دولة المهجر مرتين في السنة على الأقل كي لا يفقدوا حق الإقامة فيها، وهكذا تظل حياتهم لحظات لقاء قصيرة ففراق فلقاء ففراق ودمع رقراق.
أذكر تفاصيل يوم فراقي بيت أهلي للالتحاق بالمدرسة المتوسطة التي كان يفصلها عن بلدتنا نهر النيل ومسيرة نحو 40 دقيقة سيرا بالأقدام، وكانت الحكومات على عهدنا بالدراسة توفر للتلميذ المسكن والمأكل والشراب والكتب والدفاتر والأقلام من الابتدائية إلى الجامعة، وأذكر كم وكيف بكيت لفراق الأهل، الذين كنت أزورهم في نهاية كل أسبوع، ولكن ذلك كان يزيدني لهفة للبقاء معهم و«داهية تأخذ التعليم وسنين التعليم» ثم انتقلت إلى المرحلة الثانوية وكانت المدرسة تبعد عن بيت العائلة مسيرة نحو 12 ساعة بالقطار، وعند انتهاء كل إجازة صيفية كانت أمي وأخواتي يبكين لفراقي، فأحاول مداراة دموعي ثم أبكي بعد الجلوس داخل القطار، يعني حتى وأنا داخل نفس الوطن مع أهلي كنت أحس بوجع «الغربة» لكوني فارقت بيت العائلة، وحتى وأنا في جامعة الخرطوم كنت أحس بأنني غريب في المدينة، فكل ما فيها كان يرسخ في ذهني أنني لا أنتمي إليها: مصابيح النيون والسيارات المسرعة والآيسكريم والسينما والشوارع المسفلتة والبنات قليلات الحياء اللواتي يمضغن اللبان (العلكة) وهن يمشين في الشوارع (إلى عهد قريب كان مضغ البنت للبان في مكان عام دليل على أنها قليلة أدب، أما لو أحدث اللبان طقطقة وفرقعة فقد كان معنى ذلك أنها «منتهية» ع الآخر)، وشيئا فشيئا قوي انتمائي للخرطوم، وما كنت أحسب أن شيئا سوى الموت سيفرق بيني وبينها، وإذا بي أهاجر إلى الخارج بحثا عن عمل يثبت جيبي الذي كان يهتز بقوة 5463 درجة بمقياس ريختر بسبب «الفلس»، وتعللت بأنها «كلها ثلاث سنوات على أبعد تقدير، واشتري أرضا وأبني فيها بيتا بسيطا وأعود إلى حضن الوطن»، وامتدت السنوات الثلاث إلى 13 ثم 23 ثم 33 وماشي بعون الله على 43 (وعقبال ما تمتد إلى 53).
المشكلة هي أنه كلما فكرت في العودة نهائيا إلى السودان، ترتفع كلفة المعيشة فيه بنسبة30% سنويا، ولأن قطر تحبني بقدر حبي لها فإنها تعطيني زيادة سنوية في الراتب ولكنها لا تكون بنفس نسبة التضخم والغلاء في السودان.. ورغم كل شيء ما تزال صلتي بالسودان قوية ومستمرة ولكن عيالي الذين نشؤوا خارجه لا يفكرون في العودة إليه لأنهم أعقل من أن «يرفسوا النعمة».
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]

Exit mobile version