أذكر تفاصيل يوم فراقي بيت أهلي للالتحاق بالمدرسة المتوسطة التي كان يفصلها عن بلدتنا نهر النيل ومسيرة نحو 40 دقيقة سيرا بالأقدام، وكانت الحكومات على عهدنا بالدراسة توفر للتلميذ المسكن والمأكل والشراب والكتب والدفاتر والأقلام من الابتدائية إلى الجامعة، وأذكر كم وكيف بكيت لفراق الأهل، الذين كنت أزورهم في نهاية كل أسبوع، ولكن ذلك كان يزيدني لهفة للبقاء معهم و«داهية تأخذ التعليم وسنين التعليم» ثم انتقلت إلى المرحلة الثانوية وكانت المدرسة تبعد عن بيت العائلة مسيرة نحو 12 ساعة بالقطار، وعند انتهاء كل إجازة صيفية كانت أمي وأخواتي يبكين لفراقي، فأحاول مداراة دموعي ثم أبكي بعد الجلوس داخل القطار، يعني حتى وأنا داخل نفس الوطن مع أهلي كنت أحس بوجع «الغربة» لكوني فارقت بيت العائلة، وحتى وأنا في جامعة الخرطوم كنت أحس بأنني غريب في المدينة، فكل ما فيها كان يرسخ في ذهني أنني لا أنتمي إليها: مصابيح النيون والسيارات المسرعة والآيسكريم والسينما والشوارع المسفلتة والبنات قليلات الحياء اللواتي يمضغن اللبان (العلكة) وهن يمشين في الشوارع (إلى عهد قريب كان مضغ البنت للبان في مكان عام دليل على أنها قليلة أدب، أما لو أحدث اللبان طقطقة وفرقعة فقد كان معنى ذلك أنها «منتهية» ع الآخر)، وشيئا فشيئا قوي انتمائي للخرطوم، وما كنت أحسب أن شيئا سوى الموت سيفرق بيني وبينها، وإذا بي أهاجر إلى الخارج بحثا عن عمل يثبت جيبي الذي كان يهتز بقوة 5463 درجة بمقياس ريختر بسبب «الفلس»، وتعللت بأنها «كلها ثلاث سنوات على أبعد تقدير، واشتري أرضا وأبني فيها بيتا بسيطا وأعود إلى حضن الوطن»، وامتدت السنوات الثلاث إلى 13 ثم 23 ثم 33 وماشي بعون الله على 43 (وعقبال ما تمتد إلى 53).
المشكلة هي أنه كلما فكرت في العودة نهائيا إلى السودان، ترتفع كلفة المعيشة فيه بنسبة30% سنويا، ولأن قطر تحبني بقدر حبي لها فإنها تعطيني زيادة سنوية في الراتب ولكنها لا تكون بنفس نسبة التضخم والغلاء في السودان.. ورغم كل شيء ما تزال صلتي بالسودان قوية ومستمرة ولكن عيالي الذين نشؤوا خارجه لا يفكرون في العودة إليه لأنهم أعقل من أن «يرفسوا النعمة».
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]