كان الصولجان حاضرا في استقبال مبارك، وكذلك عبارة السودان للسودانيين لكن بكلمات مختلفة.. كانت هذه المرة “آن أوان الحرية”، والاتفاق بين فرقاء الوطن الذي تتآكل أطرافه. أربعة وستون عاماً وما بينها.. الخرطوم مدينة يمكنك أن تحكي من خلالها قصة مبارك الفاضل (السياسي المثير للجدل) بتوصيف كثيرين، أو أن تسرد تفاصيل مشهد البلدوزر الذي لا يستكين في محطة واحدة وسرعان ما يتجاوزها نحو أخرى.. الحبيب المفتون بالتكتيك الشيوعي ورجل المعارك التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.
تختفي تحت الجلباب الأبيض مجموعة من الحكايات المتشابكة، وعلاقات السياسة المتقاطعة. تقف في تقاطع شارع البلدية لترسم صورة شخص اسمه مبارك الفاضل، صفته الآنية أنه عضو في حزب الأمة القومي الذي يقف على النقيض من رئيس الحزب ابن عمه الإمام الصادق المهدي.. الصفة الحالية صفة تلاحق أخرى للرجل المنسوب إلى بيت الإمام المهدي.
من قناة الجزيرة يخرج صوت الفاضل عقب توجيه الضربة الأمريكية لمصنع الشفاء.. يتبنى الأمر ولا يقف عند هذا الحد، بل يطالب بأخرى توجه إلى مصنع جياد لأنه ينتج أسلحة.. ما حدث ارتدت رصاصاته على الرجل ولكن بقدرته الفائقة على المناورة تجاوزها ليجد نفسه بين ليلة وضحاها مساعداً لرئيس الجمهورية في نسخته الإصلاحية التجديدية في الحزب الكبير إلا أن ما فعله الرجل ذات صباح هو ذاته ما استنكره على ابن عمه حين دفع بابنه إلى ذات المنصب في مصالحة أخرى يعقبها نزاع بين الجانبين وربما اتهام بالانقلاب على السلطة القائمة.. على هذه الطريقة تقلبت مواقف الرجل الذي لا يمكن تعريفه سوى بمبارك الفاضل.
ود السادةالحكاية السودانية في نسختها السياسية تضعك أمام معادلة ثنائية تبدأ من الاستعمار المصري البريطاني ودعوتي وحدة الوادي مع الاستقلالية إلى الحزبين الكبيرين ومن ثم تقف في محطة البيتين؛ من بيت الأنصار خرج الفاضل أو من دائرة المهدي في العام 1950 ونشأ وسط تقاليد الأسرة التي تتسم بالصرامة قبل أن يحس حالة من التحرر ضربته عندما يمم وجهه صوب بيروت من أجل دراسة المرحلتين الثانوية والجامعية حيث أكمل ابن الأنصار تعليمه في الجامعة الأمريكية ببيروت قبل أن ينتقل إلى جامعة شيلر للحصول على شهادة البكالريوس في إدارة الأعمال الدولية والاقتصاد التي ربما كان لها الأثر في أن أصاب نجاحا منقطع النظير في التجارة لاحقاً، فالرجل ينظر إليه الآن على أنه رأسمالي يجلس على قمة إمبراطورية من المال.
الدخول عبر بوابة الانقلابقضى الفاضل مرحلته الدراسية في بيروت ومن بعدها أمريكا وبريطانيا وألمانيا وهو ينازع السياسة وتنازعه الولوج إليها وهو صاحب الأبواب المفتوحة نحو المجد بالوراثة، لكن دخوله إلى مسرح اللا معقول بدأ في العام 1976 حين تم القبض عليه بمعية خصمه اللدود لاحقاً الإمام الصادق المهدي بتهمة التدبير لانقلاب ضد نظام الراحل جعفر نميري قاده إلى السجن بتهمة الانتماء للجبهة الوطنية قبل أن يعود إلى المنفى، لكن العودة إلى المنفى كانت عربة استقلها حفيد المهدي في الصعود إلى سدة التأثير السياسي في العام 1986 فيما اصطلح على تسميته بحقبة الديمقراطية الثالثة؛ حيث انتخب عضوا بالبرلمان ومن ثم تم اختياره في الوزارة. في هذه الفترة لمع نجم مبارك الفاضل، حتى أنه جمع بين وزارتين في وقت واحد، فعمل وزيراً للصناعة إلى جانب وزارة التجارة، كما تولى مهام حقيبة الداخلية، إلى جانب وزارة الطاقة والتعدين ووزارة الاقتصاد. وعلاوة على كل ذلك، كان مبارك الفاضل مُشاركاً في رسم السياسات الدفاعية والأمنية للبلاد.
لكن عسل الديمقراطية لم يستمر طويلاً؛ فسرعان ما عاد العسكر لمواصلة مسيرة أخرى في تاريخ البلاد السياسي حين صعد إخوان الجبهة إلى سدة الحكم ولكنه صعود كان على الأنصاري أن يدفع فاتورته رغم أن البعض كان يطلق عليه لقب (إسلامي بطاقية أنصاري) وذلك بعد أن مهد بمناوراته الطريق أمام الجبهة الإسلامية للمشاركة في الحكومة. الدعوة للمشاركة في نهاية الفترة الديمقراطية تحولت إلى نسخة معارضة قادها ذات من قاد سلسلة المفاوضات من أجل الاتفاق مع الديمقراطيين قبل التحول.
“1”
معارضة على طريقة البلدوزرعند صعود حكومة العميد آنذاك عمر البشير إلى كرسي الحكم في السودان كان مبارك الفاضل وزيراً لداخلية حكومة الصادق المهدي وأحد الأعضاء البارزين في حزب الأمة. مما يعني أن التحول الجديد كان يفترض تحولاً آخر؛ فصاحب السلطة عليه الآن أن يخوض معركة استعادتها من جديد.. المعركة التي ستضعه في مواجهة الاثني عشر عاماً مع الإنقاذ والتي برز فيها نشاط الرجل بشكل رئيس في معارضة التجمع الوطني الديمقراطي الذي شغل فيه منصب الأمين العام عقب إنجاز مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية إلا أن المشهد الأبرز هنا يشير لنجاح الرجل في التفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وجعلها جزءا من منظومة مواجهة السلطة الجديدة وهو ما جعله أول مسؤول حزبي يوقع على حق تقرير المصير لجنوب السودان بحسب إفادة القيادي (محمد المعتصم حاكم) لكن معارضة السلطة أوقعت الرجل في مشكلات كبيرة نتاج الهجوم الأمريكي على مصنع الشفاء ومطالبة الفاضل بضرب مصنع جياد، وهو ما اعتبره البعض معاداة للوطن وليس السلطة، بل إن بعض الأقلام المحسوبة على الحكومة وصفت الرجل بالمتهور والجريء على الحق وغيرها من الأوصاف إلا أن للرجل في المقابل إيجابيات يسردها معتصم حاكم (مبارك الفاضل موسوعة في المعلومات، ويكاد يكون يعلم ما يجري في السودان على مدار اليوم أيام معارضته بالخارج)، ونوّه إلى أن مبارك أيضاً تنفيذي من طراز فريد، لافتاً إلى أن من يتابع مسيرة مبارك الفاضل يلحظ تطوره بسرعة فائقة، وامتلاكه للقدرات العالية، بجانب استطاعته خلق علاقات واسعة ومميزة مع مؤسس الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق، ومازالت هذه العلاقة مستمرة مع قيادات الدولة الجديدة.
“2”
المساعد المنشقفي العام 2000 عاد الفاضل إلى السودان ضمن قيادات حزبه من أجل المعارضة من الداخل ومواصلة المسيرة ضد الإنقاذ إلا أن المعارضة وفي صورة تراجيدية تحولت إلى مشاركة حين قاد مبارك انشقاقاً في صفوف الحزب وكون حزباً جديد أطلق عليه (حزب الأمة الإصلاح والتجديد) وذهب إلى المبنى الرئاسي مساعداً للرئيس، لكن الأمر لم يدم طويلاً وسرعان ما غادر الرجل منصبه بعد عامين عقب اتهامه بعدم الالتزام بسياسات الحكومة التي يشارك فيها، وعاد مرة أخرى لممارسة معارضة السلطة وإمام الانصار في ذات الوقت والانخراط في صفوف تحالف الاجماع الوطني والانشغال بتجارته بين الفينة والأخرى قبل أن يساهم بشكل كبير في مؤتمر جوبا في العام 2008 ..
الرجل الذي خاض معركة الانتخابات الرئاسية من تحت جلباب حزب الإصلاح والتجديد سرعان ما فاجأ الكل في العام 2010 بإعلان عودته إلى حزب الأمة القومى برئاسة المهدي بعد معارك إعلامية طويلة المدى كان أقل ما فيها مطالبته ابن عمه بالتنحي عن القيادة وترك الحزب ليقوم بدوره في معركة النضال للخلاص من الوطني. ولم يعدم قاموس المهدي ما يرد به على غريمه اللدود الساعي للجلوس على كرسي قيادة الحزب الكبير.
“3”
كرازاي السودانمبارك الذي زار أمريكا بدعوة من مركز السلام الأمريكي لمناقشة قضايا السودان جعل البعض يربط بين الزيارة وتجهيز الرجل لتنصيبه حاكماً على السودان من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، لكن حفيد الإمام ينفي الأمر جملة وتفصيلا بالقول إنه ذهب لأمريكا ليقول إن المعالجات الجزئية لن تكون حلاً لمشكلات السودان. ونفى بشكل كبير أن يكون هو كرازي بلاد النيلين.. ربما من يقولون ذلك يربطون بين مواقف الرجل القديمة في زمن التجمع الوطني الديمقراطي ـ وهي ما زاد من هذا الأمر ـ والقدرات الكبيرة له في عملية التفاوض وإمساكه بملف العلاقات السودانية الأمريكية في فترة الديمقراطية الثالثة زاد من هذا الاحتمال لدرجة أن البعض كان يحكي عن أمور حدثت في القاهرة في النصف الثاني من عقد الألفية الأول، حيث كانت هناك ندوة من المؤمل أن يتحدث فيها الفاضل فقد ردد بعض المصريين المنشرين على جنبات المقاهي عبارة أنهم ذاهبون للاستماع إلى رئيس السودان القادم والمصنوع أمريكياً وهو ما لم يحدث حتى الآن.
“4”
خميرة العكننة“على مبارك الفاضل أن يشكل له حزباً جديداً” كانت هذه آخر التصريحات المنسوبة لزعيم حزب الأمة القومي الإمام الصادق المهدي في أعقاب عودة مبارك الفاضل إلى البلاد.. تصريح الإمام ومطالبته الفاضل بالابتعاد قد تعظم من فرضية أن الرجل خميرة عكننة في حزب الأمة لكن الفاضل في المقابل يرى الصورة بغير عين الإمام؛ فهو يرى أن الأزمة في المهدي نفسه وليس في أحد غيره، كما أن العودة قد تعود بك إلى معارك ما تزال مشتعلة بين أبناء العمومة تحت رايات كيفية إدارة أمور الحزب وفقاً لمعايير المؤسسية التي يقول الفاضل إن انتقاده لغيابها هو ما يجعل البعض يتهمه بأنه خميرة عكننة داخل الحزب..
لكن عكننة الفاضل بدت واضحة في مشهد ما قبل انعقاد الهيئة التشريعية للحزب وحراك الأمين العام السابق إبراهيم الأمين الذي ربما يتم التحالف بينه والفاضل في مسارات الحزب الجديدة رغم أن الرجل قال إنه مستعد للحوار مع الإمام الصادق المهدي في ما يتعلق بقضايا الحزب.
“5”
الإنقلاب الأخيرالخرطوم التي استقبلت الفاضل بقيادة الإصلاحي غازي العتباني وآخرين وقفت تحيط بها الحيرة مما يريد أن يفعله المناور بدرجة رفيعة خصوصاً وأن اللغة التي استخدمها البلدوزر كانت وفاقية للحد البعيد؛ فما الخطوة التي يسعي إلى المضي فيها وبها في مقبل مواعيد الوطن؟ فهو من جانب يعلن استعداده التام للجلوس مع النائب الأول في الوقت الذي يمد فيه أياديه بيضاء لرئيس حزب الأمة القومي. البعض ينظر للأمر بأنه تعبير عن حالة الذكاء الحاد التي تميز البلدوزر لكنه ذكاء يرتبط بالقدرة على إثارة عدم الاتفاق بين جل المكونات على شخصية العائد إلى الوطن محمولاً على طموحه القديم ومدفوعاً بذاكرة حديدية لاسترجاع المواقف والوجوه، ذاكرة لا يمكنها إهمال ما فعله الصادق حين فصله ابن عمه بالمثل (ديك المسلمية يعوعي وبصلتو في النار) كما أنها لن تهمل بأي حال من الأحوال مشهد مغادرته القصر مغاضباً من الذين يدعون للحوار الآن وينتظرون مساهمة البلدوزر فيه من أجل الوصول بالوطن إلى مرافئ الاستقرار، وان كان التوصيف السليم للحالة المباركية أنه رجل يستطيع الوصول إلى غاياته بتوظيف كل السبل وإن كان موجوداً مرة أخرى داخل عش الدبابير.
صحيفة الإنتباهة
الخرطوم الزين عثمان