سألتني صديقة عزيزة رافقتني لحضور فعاليات اليوم: بتعرفي دكتور كمال حنفي ؟ فأجبتها بـ (سامعة بيهو) وان لم احظى بفرصة رؤيته، فالرجل وقتها كان علم من اعلام الاسلاميين له وزنه ومكانته وسط الطلاب، لذلك كانوا يستعينون به لسد ثغرة أركان النقاش في موسم الانتخابات، فرغم مغادرته لمقاعد الدراسة منذ سنوات، إلا انه ظل مواظبا على زيارة المحروسة، فقد كان عاشقا لانسانها وتراثها .. مقاهيها وحواريها ومزاراتها العتيقة .. أشارت رفيقتي ناحية رجل ابيضاني كان يقف بعيدا عن الجموع مستندا على حائط الاتحاد وقد غطى وجهه بمرفقه وانخرط في بكاء مرير كطفل صغير ..
احتفظت له في الذكرى بصورة الانسان الرقيق مرهف المشاعر المخلص للفكرة لدرجة البكاء، حتى جمعتنا بعد التخرج دروب السعي للبحث عن وظيفة، برفيقة دراستنا واختنا الحبيبة ميسون، فعلمت منها خبر خطبتها لـ الدكتور وقرب مواعيد الزواج .. يومها ذكرت نفسي بحكاية المثل (وافق شن طبقة) بنسختها السودانية (ذكي وجد ذكية)، وآمنت بحكمتنا الشعبية (الما بلقى شبهو المولى قبحو)، فقد كانت ميسون ولا نزكيها على الله انسانة خلوقة هادئة رقيقة المشاعر مسالمة ملائكية الصفات، أكاد اجزم بأنها لم تنطق سوءا ولم تجرح انسان عن عمد حتى لاقت ربها راضية مرضيا عنها باذن الله .. كان الاثنان كـ (فولة وانقسمت نصّين) تشابه صفات وااتلاف اراوح تشابهت فتحابت فجمعها الله في بيت الحلال ..
ثم فرقنا لهاث البحث عن تحقيق الذات والتزامات الزواج وتربية العيال، فلم نتقابل (الا قليلا) وقد كنت من متابعي كتاباته الشفيفة من على البعد، حتى ان قرار ارسالي لنمازج من كتاباتي لصحيفة الراي العام في البداية، كان بسبب اعجابي وولائي لشيخي .. د البوني ود كمال حنفي، وعندما وفقني الله ووجد عمودي الراتب القبول، خصني و(بنات كتبتي) زميلاتي العزيزات منى أبو زيد ومنى عبد الفتاح، بضيافة كريمة في زاويته رحب خلالها باقلامنا واتحفنا بثناء راقي، وبطريقته المميزة عنون الموضوع بـ (منى3) تكعيب .. وببرلمة الجدة والجهل باتكيت التعامل في المجال، فاتني ان اتصل عليه لاشكره على كلامه الطيب في حقنا، وفي أول مصادفة جمعنا فيها منعرج السلّم المؤدي للصحيفة، لامني بشدة حتى انطويت خجلا منه تحت اضافري .. اخبرني ان رفيقتي قد بادرتا للاتصال به وشكره بمجرد قراءتهن للموضوع، وعندما طال به الانتظار لمكالمتي خاف علي من أن يلحقني داء شوفة الروح، فـ (تكبكبت) واخلصت الاعتذار حتى انفرجت اساريره، واراحني بأنه انما كان يداعبني ولم يغضب مني حقا، بعدها وقف ساعة من الزمان في تباسط الكبار ليشرح لي تقنية كتابة الرقم ثلاثة اعلى كلمة (منى) لتفيد معنى التكعيب، ثم ابلغني سلامات ميسون وتواعدنا على اجتماع اسرتينا ولكن اختلفنا في الميعاد ..
ثم جائتني مكالمة حزينة من صديقاتي ينعين فيها حبيبتنا ميسون، فذهبت للعزاء وفي قلبي لوعة على أم شابة تركت زغبها الصغار .. لاقتني أمها ملاقاة من وجد ريح الحبايب بعد الغياب، فقد جمعني بالفقيدة شبة الطول والسمار وطريقة لف الخمار .. حنّت وبكت ثم اخذتني من يدي وادخلتني لغرفة وضع فيها ابناء المرحومة بعيدا عن النواح والبكاء .. نادتهم وهم في اعمار صغاري:
تعالوا سلموا على صاحبة امكم ..
يومها ظللت ابكي طوال طرق العودة على وجيعة يتم الصغار، حتى زجرني ابو العيال بـ (انت ما مؤمنة .. الخلقهم يتكفل بيهم وان شاء الله ابوهم ما بيديهم عوجة) فحدثت نفسي بـ (هواجس الحريم):
هسي بكرة يجيب ليهم مرة أبو توريهم الويل وسهر الليل ..
سبحان الله .. الارواح جنود مجندة .. تآلفت ارواحهم في الدنيا ثم تواعدت على الرحيل .. شفيف آخر يعجز عن الاستمرار دون شريكة حياته فيجمع دفاتره ويلحق بها في هدوء .. ندعوك ربنا ان تجمعهم ثم تجمعنا بهم في جنة النعيم ..
منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email]