تيار النشوة الذي سرى فى أوصال قادة القوى السياسية يومها بلغ ذروته حين جزم المتحدثون بأن ما تحقق من حريات لم يكن منّة من أحد وإنما هو نتاج نضالات سياسية مهرت بالدم والدموع!
ابراهيم الشيخ، رئيس المؤتمر السوداني حرص حرصاً بالغاً على التأكيد على أن القوى المعارضة -وحدها- بما أنجزت من نضالات هي التى حققت هذا الانجاز الكبير! والرجل على حداثة عهد حزبه بالممارسة السياسية في الميدان السوداني، إذ لم يكن حزبه فى آخر تعددية سياسية شيئاً مذكورا، بدا وكأنه هو (الصانع الأوحد) لما تحقق.
وبالطبع لا شأن لنا بمجادلة هذه القوى وهى تعيش عرسها السياسي الكبير إذ أن الألسن فى هذه اللحظات أسرع من الآذان، ولكن من الضروري هنا ان نستذكر مع هذه القوى دروسها السياسية وواجباتها المنزلية لعلمنا أنها في الغالب تستهين بورقة الامتحان بل ربما اعتقدت انها (فوق أي امتحان).
أولاً، ليس المحك هو هذه الميادين الفسيحة التى تمتلئ بالجمهور للإستماع والمشاهدة، الجمهور السياسي السوداني فى الراهن الحالي هو الأذكى من قادته السياسيين ولهذا فإن حضوره لمثل هذه اللقاءات السياسية هو حضور لأغراض (البحث والتدقيق) وليس للإستمتاع بإسقاط الحكومة -عبر الألسن- وعن طريق العبارات المطولة المكرورة.
الجمهور السياسي السوداني سرعان ما سيسأل هذه القوى السياسية عن ما لديها من بضاعة سياسية صالحة للتداول السياسي في إدارة الدولة والشأن العام. هل غاب الجمهور السياسي السوداني طوال الخمس وعشرين سنة الماضية عن الإلمام بحقائق ما يجري فى بلاده؟ هل يجهل العامة دعك من الخاصة اخطاء الحكومة ونجاحاتها واخفاقاتها؟ هل كانت وسائل الاتصال الحديثة -السريعة الانتشار- غائبة عن المشهد السياسي السوداني العام؟ المشكلة لم تعد مشكلة تنظيم ندوات وأحاديث وصرخات. المشكلة بالتحديد هي كيفية تأمين تداول سياسي سلمي للسلطة وتقديم برامج واقعية جادة ومدروسة خفيفة فى اللسان ثقيلة فى الميزان تفيد المواطن السوداني مباشرة.
ثانياً، الجمهور السوداني ملول بطبعه، ولن يقضي سحابة يومه كلها فى ملاحقة الندوات السياسية وأحاديث الماضي وذكريات السنين والاستماع الى نضالات المناضلين وتضحياتهم الذاتية. ولو قرأت أحزاب المعارضة الأوضاع جيداً لأدركت ان الحريات التى أطقلها لها الوطني هي فى الواقع امتحان بالغ الخطورة والصعوبة، من شأنه ان يكشف (العملة السياسية الردئية والمزيفة) بسرعة البرق، فالحريات قرينة المسئولية والتطور والقدرة على إبداع واقع سياسي اقتصادي ثقافي اجتماعي عملي.
ثالثاً، قطاعات السودانيين -لسوء الحظ- زهدت فى الحزبية منذ سنوات بصرف النظر عن الاسباب، والشعب السوداني أصبح إما قدامى يشعرون بفارق شاسع ما بين الماضي والحاضر، أو شباب صاعد لا شأن له البتة بأحزاب السياسية تتحدث بلغة فرعونية قديمة! مأزق القوى السياسية سيظل حاضراً طالما أنها لم تستعد أبداً لمثل هذه اليوم الذي يكرم فيه الحزب أو يُهان.
سودان سفاري
ع.ش