منذ اندلاع النزاع في ديسمبر الماضي كان الشغل الشاغل لسلفاكير نفي ما ذهب إليه المجتمع الدولي وهو الطابع القبلي للنزاع بينه كممثل للدينكا ومشار كممثل للنوير والذي يغذيه صراع القبيلتين التاريخي على النفوذ والسلطة والذي يتجلى عسكريا في العادة وكان أشهر هذه التجليات انشقاق مجموعة الناصر بقيادة رياك مشار ضد مؤسس الحركة الشعبية جون قرنق في 1991 وخوضهما حربا قدر ضحايا من المدنيين الجنوبيين بأكثر من ضحايا الحرب مع الشمال.
وعلى الجانب الآخر من الصندوق القتالي كان مشار أيضا ينافس سلفاكير في إثبات ذات النفي، وكلاهما كانا يمتلكان الشواهد لإثبات قومية طرحهما ودوافعهما في الصراع الذي بدأ سياسيا صرفا بسبب تنافسهما على الترشح باسم الحركة لمنصب الرئاسة في الانتخابات المقرر لها العام المقبل، وكان كل منهما يتمتع بحلفاء راسخين من قبيلة الطرف الآخر وإن كان غالبية الحلفاء من ذات القبيلة لطبيعة الممارسة السياسية الناشئة في أحدث دولة صنعتها ماكينات العالم الثالث المعطوبة.
لكن مع اتساع رقعة الحرب زمانا ومكانا بدأت الحرب تأخذ طابعا قبليا لأن الحلفاء السياسيين من النخبة لم يكن يقابلهم حلفاء عسكريون في جبهات القتال يحولون دون المجازر التي ارتكبها الجنود من الطرفين طلبا لثأر قديم بحق المدنيين على أساس الهوية طبقا لإتهامات أممية. فسرعان ما استغل الدينكا إمكانيات الجيش الشعبي لمصلحة قبيلة وليس قومية بعد انقسامه بخروج غالبية النوير منه مع مشار بالتزامن مع تجييش النوير لأبنائها في مليشيا “الجيش الأبيض”، وساعد على هذا التفكك طبيعة الجيش الشعبي نفسها كتحالف لمليشيات قبلية أكثر منها جيشا مهنيا تردعه عن مثل هذه الفعائل عقيدة قتالية قومية متفق عليها.
والمجازر التي وضعتها المؤسسات الأممية في صدارة أجندتها وبلغت حد أن فرضت واشنطن عقوبات على حكومة سلفاكير رغم رعايتها الأصيلة لمشروع الدولة الوليدة، كانت بدورها محركا أساسيا لفض التحالفات الهشة خصوصا داخل مجموعة مشار فحلفاؤه مثل باقان أموم ودينق ألور كانا حتى عشية حل سلفاكير لحكومته ألد خصومه وهذا محرك استفاض فيه إدوارد لينو في سلسلة مقالات نشرتها له اليوم التالي.
فبعد إطلاق سراح ألور ضمن 6 آخرين شرعوا في تفاوض مع سلفاكير عبر مسار ثالث أطلق عليه “جلسات الحوار الداخلي للحركة الشعبية” ويهدف السياسيون السبعة من خلاله إلى إجراء إصلاحات دستورية وسياسية وليس اقتسام السلطة والثروة التي تحكم المفاوضات بين مشار وسلفاكير. وهذا المسار بالضرورة يدعمه باقان والثلاثة المعتقلون معه حتى الآن، والذين قررت وزارة العدل بالأمس شطب الاتهامات الموجهة لهم بمحاولة الانقلاب على النظام الدستوري ما يحتم اطلاق سراحهم قانونا.
وقد جعل فض التحالف بدوره الحمية القبلية عند النوير تستعر، وكذا عند الدينكا فكانت مجازر بانتيو مؤخرا والتي عجزت الأمم المتحدة عن وصفها وكانت مدخلا مناسبا لسلفاكير للتخلص من جيمس هوث بحجة وهمية هي الهزائم العسكرية، وتمدد مشار في مناطق النفط، بينما الحجة الحقيقية دون مغالطة هي أن جنرال النوير لم يعد مؤتمنا على حرب من السذاجة بمكان محاولة نفي طابعها القبلي.
وقد كان قرار إقالة هوث بالتأكيد، ضمن خيارين أحلاهما مر بالنسبة لسلفاكير، لأن الرجل الذي كان يرأس هيئة الأركان بمعنى أنه كان القائد العام الفعلي للجيش الشعبي بالنظر إلى انشغالات سلفاكير بتسيير دولاب الدولة لن يذهب إلى منزله للاستمتاع بشيخوخة إجبارية، بل سيذهب إلى حيث ذهب بنو جلدته وسيستقبله مشار فاردا ذراعيه لصندوق أسراره الحربية بكل ما تحمله من انتهاكات لحقوق الإنسان فوض المجتمع الدولي الاتحاد الأفريقي للتحقيق حولها.
وهذه انتهاكات تلاحق مشار أيضا، لكنه استخدم ذكاءه لإبعاد شبهتها عنه بمنح استقلالية للجيش الأبيض الذي تعود له غالبية الانتهاكات المحسوبة على صاحب الفلجة.
وذهاب هوث أيضا يجرد سلفاكير من حجته الوحيدة بأنه لا يخوض حربا قبلية ضد النوير، فمثل هذه الحرب تضر سلفاكير أضعاف ضررها على مشار لأن الأخير الآن ليس سوى “متمرد” في الفقه الدولي لا تحكمه أشراط دستورية وأخلاقية كما هو الحال مع سلفاكير بوصفه رئيسا للبلاد بكل قومياتها المتناحرة. وتجريد سلفاكير من هذه الحجة يضاعف عليه الضغوط الدولية وتنهي مستقبله الرئاسي عاجلا أو آجلا إلى مستقبل قبلي على أحسن الأحوال مقابل مستقبل رئاسي لمشار أو على الأقل مستقبل سياسي إلى حين ومن ثم رئاسي، بعد أن تضع الحرب أوزارها فتكون النتيجة أن سلفاكير لم يفعل شيئا بقراره إقالة هوث غير تأجيل موعد تحوله القبلي إلى شهور كان سيختصرها عليه جنرال النوير الذي نظر إليه سلفا بعين الجاسوسية والتي من الغباء إغماضها، ومن التهور تنفيذ ما رأته.
صحيفة اليوم التالي
الخرطوم محمد الخاتم