لم يكن في ظن البروف أن الذين منحوه ذلك التفويض، قد تراجعوا لاحقاً وندموا على أصواتهم التي قذفوا بها إلى صناديق الاقتراع، إبان عملية السباق الانتخابي قبل حوالي أربع سنوات ماضية، وقتها كانت الجزيرة قد استقبلت واليها الجديد على أنغام من الفرح والسعد ونثروا في طريق الرجل الأزاهير ،لأن القادم الجديد، كان يحمل رؤية للإصلاح والتغيير والبناء، ورسم ملامح وخارطة طريقه للخروج من أوحال سلفه الجنرال عبد الرحمن سر الختم، أو هكذا كان واقع الحال .
ولهذا لم يكن من السهل على شعب الجزيرة، ولا قيادة المؤتمر الوطني في مركزه العام بأن تقذف الحكومة بأحد أبرز مجاهديها إلى خارج سلطة الولاية، ولكنها استمعت إلى كل الحقيقة، من رموز وقيادات الجزيرة عبر المذكرات واللقاءات الخاصة، ثم بحثت في كل خياراتها فلم تجد سبيلاً أو مخرجاً يعيد للجزيرة حقها المنهوب وسلطانها الغائب، سوى أن تطيح بوكيلها في الجزيرة وتجبره على الرحيل .
الزيارة تكشف:
رحيل وذبائح
لم يكن قرار إبعاد الزبير من منصبه خطوة مفاجئة، ولكنه كما ذكرنا كان نتاج مخاض عسير تطاولت ازمانه وتعددت خياراته، وبالتالي هو قرار مؤجل انتظره اهل الجزيرة وهم يحبسون انفاسهم بجلد وصبر ايوبي، وهم يقبضون كذلك على الجمر ويحاولون في رهق، التصالح والتعاطي مع ازماتهم واحزانهم القديمة والجديدة ..الان ذهب الوالي وبطريقة أشاعت الرضا والارتياح بين المواطنين وقياداتهم فنحرت الذبائح في ام القرى وخرجت الدفوف والطبول في جنوب الجزيرة واطلقت الذخائر والزغاريد في المناقل، وعادت لمدني ابتسامتها المفقودة تلك هي ملامح التدافع التلقائي الذي اعقب استقالة البروف ولكن ثم ماذا بعد ..هذه محاولة لفك الطلاسم ما بين والٍ وولاية، ذهب الأول وبقيت الثانية تنتظر فارسها القادم .
حزب الرجل الواحد
عموم أهل الجزيرة الآن عبروا وبشكل كبير عن قرار استقالة الزبير فلنترك للاخ القيادي المبعد من المؤتمر الوطني بشير البلة، ليحكي لـ«الإنتباهة» تداعيات ما جرى ويجري هناك فقال : هناك ارتياح ودفقة امل بالجزيرة وهناك ايضاً انتباهة متأخرة جداً من الحكومة المركزية، فالزبير لم يكن رجلاً مؤسسياً ولكنه اقصائي، والمؤتمر الوطني كان غائباً ومغيباً، فضاع الحزب وفقد نفوذه خاصة وسط الشباب، ولهذا خلف الزبير تركة مثقلة بالاعباء والتراجعات والهموم على انسان الجزيرة .
ويقول ود البلة ..نأمل ان يكون القادم الجديد لكرسي الولاية، في قامة الجزيرة ونريد والياً بمواصفات خاصة يدرك تماماً طبيعة وتركيبة انسان الولاية ولن نطالب القادم الجديد في هذه المرحلة سوى بالبحث عن وحدة صف بين كل مكونات واطياف الولاية سياسياً وفكرياً واجتماعياً .
وحذّر ود البلة من ان بعض الاسماء التي لا زالت مطروحة لخلافة «البروف» ووصفها بأنها مجموعات تستبطن اجندة شخصية، وقال انه لا يرغب في العودة الى المؤتمر الوطني، ولكنه لا يمانع في ان يضع يده او ينضم لاي مجموعة للعمل تحت راية الجزيرة .
من القادم..؟
ذهب القيادي بالمؤتمر الوطني عبد الباقي علي في حديثه لـ«الإنتباهة»، الى ان اي خليفة جديد للزبير من ابناء الولاية سيكون وبالاً عليها، وذكر انه من الداعمين لمقترح الحاج عطا المنان كوال للجزيرة، وقال نحن لا نريد تكرار الاخطاء السابقة التي وقع فيها الولاة السابقون امثال الشريف بدر والامين دفع الله، وكذلك تجربة احمد الطيب غير ان الاخ عبد الباقي علي صب جام غضبه على تجربة الزبير، ووصفها بانها أسوأ فترة تشهدها ولاية الجزيرة منذ حقبة الانجليز، بل ان الانجليز كانوا في حكمهم افضل من الوالي المستقيل، مبيناً ان الزبير استهدف كل الرموز والقيادات الحية والقوية بالجزيرة ولكن بذهابه اصبح عموم اهل الجزيرة في حالة اشبه بفرحة العيد .
حكاوي وقصص
وتعددت الحكاوي والقصص الواقعية وحتى الخيالية، وتعددت كذلك التفسيرات والتبريرات التي صاحبت استقالة البروف، وانتجت كل هذا الفرح وحالة الانتشاء التي دخلت كل دار وكل اسرة بالجزيرة، هذه الرواية نقلها الينا اللواء محمد عبد الله الاحدب، الذي كان اسمه قد تردد في بعض المجالس الخاصة بانه سيكون خليفة الزبير على تركته المثقلة، الا ان عملية التشريح الدقيق لقائمة المرشحين اطاحت باللواء الاحدب .
ولكن الاحدب قال في تبريرات الترحيب والانتشاء، ان المواطنين فرحوا ليس بالوالي الجديد القادم، ولكنهم فرحوا لان ولايتهم غادرها الزبير وانطوت صفحة حكمه، ولهذا فإن فرح الجزيرة بالاستقالة مقدم على فرحة التعيين القادم، واصل حكاية الجزيرة وواليها كما قال اللواء الاحدب، ان هناك مجموعة صغيرة تلتف حول الوالي ولكنها لا تحمل شجاعة ولا جرأة تقودهم لإرشاد الوالي حتى يصحح مساراته، ولكن هذه المجموعة تخشى على اجندتها ومصالحها الخاصة من الهلاك، رغم ان فرصة الاصلاح كانت كبيرة امام هؤلاء .
ولكن باب الامل لم يغلق، فهناك من يستبشرون خيراً بالفجر الجديد، ويأملون من الوالي القادم ان يثري حياتهم بالشورى والرؤى الثاقبة، والاهداف النبيلة واصلاح كل ما طال الخدمة المدنية من تخريب وفساد.
فالجزيرة الآن كما يراها اللواء الاحدب باتت كما الجزر المعزولة، ودخلتها الصراعات والتقسيمات والجهويات التي رسخت لها تجربة الزبير، ولابد للقادم الجديد ان يرسي منهجاً جديداً، لمعالجة كل هذا الخراب ويجنب الولاية الوقوع في مستنقع الفتن القبلية والتنمية المزعومة، ورغم فقرها وعجزها فهي تمت بجهد شعبي لم تكن الحكومة المركزية حاضرة فيها الا بالنذر اليسير.
وستحتاج الولاية الى زمن طويل حتى تندمل جراحاتها وسيحتاج حزبها الكبير أيضاً الى رؤية ودماء جديدة وارادة جديدة، لانقاذ انسان الجزيرة حتى يخرج من امراضه وفقره واحباطاته ولن ينصلح حال اهل الجزيرة، ما لم ينصلح حال مشروعها، الذي يرقد الآن مريضاً لا يجد من يداويه ويبعث فيه الروح مجدداً . وأدنى ما يطلبه المواطنون بالجزيرة كما يقول الاحدب، ان يكون واليهم القادم رجلاً شورياً ولا يكون جزءاً من صراعات الولاية .
وتوقف قطار التنمية
أما الاخ الامين محمود المكني بأبو الشهيد احد ابرز قيادات الوطني بشرق الجزيرة واحد المناهضين لسياسات الوالي المستقيل، أكد أن هناك فرصة أمام المؤتمر الوطني لإصلاح ذاته من كل السلبيات التي خلفتها تجربة الزبير بشير ،لأن الجزيرة الان بحسب ابو الشهيد فاقدة لارادتها وتحكم كذلك بلا رؤية، وبلا رشد، وبلا صوت، وهي تفرقت ايدي سبا في حقبة «البروف» وعاشت أسوأ مراحلها في عهده.
ويرى أبو الشهيد في حديثه لـ«الإنتباهة»، أن من أكبر الاخطاء التي وقعت فيها الحكومة المركزية، انها جاءت لهذه الولاية برجل أكاديمي وفرضته على السياسيين، الامر الذي احدث حالة من التقاطعات والتجاذبات السياسية داخل منظومة الحزب والحكومة .وهو كذلك -اي البروف الزبير- رجل لا يقبل الرأي والرأي الآخر ويتحلى بقدر واسع من الجهوية، كما انه لا يسعى في الناس من اجل وحدة صفهم، وانه اضاع وقته في أبوكرشولا -على حد قوله- أما بشأن التنمية والخدمات بالولاية كما يراها الاخ ابو الشهيد، فهي متوقفة تماماً منذ ان غادرها الوالي السابق عبد الرحمن سر الختم ، ولهذا كان يجب على البروف الزبير مغادرة هذا المنصب منذ فترة طويلة، وبمعروف دون اي مماحكات .أما بشأن الوالي القادم لهذا الكرسي، قال إنهم وعلى مستوى المحليات السبع بالولاية كانوا قد اجتمعوا مع قيادة المؤتمر الوطني بالمركز العام، و توافقوا عبره على مرشح واحد هو الأخ عمر علي محمد الأمين المدير الاسبق لمشروع الجزيرة، وذلك بعد أن قامت هذه المجموعة من القيادات بعملية جرح وتعديل وإسقاط لبعض القيادات من عملية الترشيح، حيث تم إبعاد كل من أزهري خلف الله، واللواء محمد عبد الله الأحدب، بحكم مشاركتهما في هذا الاجتماع .
مصادرة الرأي
وفي توصيفه لمرحلة الزبير بشير طه، قال الاخ حسن الدنقلاوي احد الناشطين بالمؤتمر الوطني في محلية المناقل، في افاداته لـ«الإنتباهة»، إن الزبير فشل تماماً في كل الملفات، وبالاخص السياسية والتنموية ولكنه نجح بجدارة في محاكمة الرأي العام، وزج بالصحفيين في محاكمات وملاحقات تحت طائلة نيابة الصحافة بالجزيرة، كما أنه فشل في تحقيق اي تقارب في الرؤى والسياسات ليس بين مكونات حزبه فقط، ولكنه فشل ايضاً في ان يقرب الشقة بين حزبه وبين الخصوم السياسيين بالولاية .
وعزا الاخ الدنقلاي الفشل المستمر لحكومة الزبير، بسبب اختياره لمجموعات ليست لديها رؤية لا في العمل السياسي ولا حتى التنفيذي، وقال ان هذه الاستقالة اوقفت الارتفاع المستمر في منسوب الغبن الذي اصاب كل مواطني الجزيرة، وان أسوأ ما قام به الزبير انه اقصى القيادات التاريخية وذات البعد الجماهيري بالمؤتمر الوطني، رغم ان هذه القيادات كما يراها الدنقلاوي كانت الرابط الحقيقي بين قاعدة الجماهير وقمة الحزب، واضاف الاخ حسن انه لا مستقبل لاي حكومة قادمة ما لم تكن ذات رؤية تخصصية، تستجيب تماماً لواقع الجزيرة وخصوصيتها كولاية زراعية، تزخر بكل الامكانيات الزراعية .
البكاء همساً وسراً
ولان المجلس التشريعي بالجزيرة هو الفاشل الاكبر بالولاية من حيث عدم إعمال مبدأ الرقابة والشفافية والتشريع والمحاسبة، فكان حتمياً ان تخرج قاطرة الزبير من مساراتها التي توصلها الى قلوب الجماهير، ورغباتهم ولكن المجلس هذا كما وصفته بعض القيادات بأنه ذراع حكومية ولا يقول شيئاً الا بما يريد الحاكم، وبالأمس ظهراً استلم هذا المجلس استقالة الزبير، ولكنه لم يبوح بشيء لا سلباً ولا إيجاباً بشأن هذه الاستقالة، ولكن رواية اخرى جاءتنا من هناك عبر الاسافير بان عدداً من قيادات المؤتمر الوطني من اهل الحاشية، بكوا همساً وسراً وربما تغزلوا في السيد الوالي وفي تجربته وفي نجاحاته أو قالوا عنه ما لم يقله مالك في الخمر، ولكن لا ريب فإن هذه المجموعة المقربة ستهلل وتكبر كثيراً وستبني أيضاً جسوراً جديدة مع القادم الجديد.
صحيفة الإنتباهة
هاشم عبد الفتاح