بينه وبين تلك الصخرة ، علاقة وطيدة ، يمكن لمسها باليد ، والإحساس بمكوناتها تماما كالإحساس بخصلات الشعر الساقطة على الوجنتين ، حتى عين الماء المنبثقة من تحت الصخرة ، كانت ترسل رقرقات خاصة عند وصوله إليها ، فيبدو خريرها وكأنه يخاطبه بلغة متوافقة، مياهها شديدة الصفاء ، شديدة النقاء ، تبدو كجدول من بلور شديد الشفافية ، تحاول بكل ما تملك من رهبة وهدوء ، أن تتسلل إلى نفسيته ، كي تتغلغل فيها ، تحركها نحو نقطة من بياض أو نقاء ، أو على الأقل ، أن تضع بعضا من بيوضها بأعماق ذاته المسربلة بغموض مجهول يندفع نحو حيرة مشدوهة ، لكن ، كل ذلك كان ينكسر ، ليسقط من جديد بجريان الماء المنغمس برحلة ضياع بين باطن الأرض وحرارة الشمس ، وأفواه الناس والحيوان وجذور النبات .
منظره لا يوحي بالغرابة بالنسبة لمشاهد عادي ، فهو طويل القامة باعتدال ودون إفراط ، تحتل رأسه صلعة ملساء تشبه إلى حد ما الصخرة التي اعتادت حضوره ، يتخللها بعض ندوب تدل على قساوة الرأس وعنادته ، ممتلئ الجسم ، بدون ترهل أو تبعج ، ينفرج شاربه بطريقه غزيرة ، ثم يتدلى ليخفي الفم ، وكأنها محاوله مقصوده لإخفاء الشفتين الجافتين، ملابسه عاديه، لا فقر فيها ولا ثراء .
لكنه للروائي، أو القاص، يبدو من الوهلة الأولى، متخم بالرمزية، فبريق عينيه اللامعتين ، المتأجج بشهوة الغموض والمجهول، المتكاتف مع نظرته الذاهلة، الغارقة بتأمل ممتد بين الدهشة والمباغتة، يكاد يرسي بالنفس مجموعة من مشاعر تستفز الفؤاد بنوع غريب من المبهم المتداخل مع رغبات روائية لتسلق جدر الدهشة الموزعة بين خفقات الرواية ووجيب الواقع، شاربه الكث الغزير المتساقط نحو الفم المغلف بصمت متناه، وجمل قليلة، لاذعة أحيانا، ومحيرة أحيانا أخرى، ومستنفره في بعض الأحايين، أضف إلى هذا، الارتباط القائم كأنشودة إغريقية بينه وبين الصخرة وبين عين الماء المرفضة من قاع الصخرة أو أسفل الأرض التي تحتضنها، هذا، يضيف إلى عين الراوي مساحات لا يمكن للإنسان العادي ولوجها، أو حتى الوقوف على أطراف غليانها وانبثاقها كرؤى حالمة مشبعة بالحزن والألم والقلق المتواصل مع كآبة معتقة تكاد تمتد إلى بدء التكون البشري على حافة الكون.
صحيح أن الراوي يملك مخيلة خصبة، مترعة بتفاصيل مبتكرة، تركب فوق مكونات الشخصية لتظهرها بصورة خاصة، يكون الراوي المشكل الأساسي لنمط تكوينها، لكن الأكثر صحة، أن الراوي إنما يحاول تشكيل الشخصية حسب قوة خفية تكاد تكون أكثر اندماجا ووضوحا، بل وأكثر علما ومعرفة، بتفاصيل الشخصية من صاحبها الذي يمارس الحياة وفق ظن قائم لديه بأنه يعرف ما يريد من تصرفاته وأفكاره، والاهم وهمه المطلق باعتقاده بأنه يعرف تطور إحساساته وانفعالاته ، وتقلبات مرجل عواطفه وهواجسه.
ذات يوم سألته، ما سر علاقتك بالصخرة هذه؟ قال: اسأل الصخرة، قلت كيف أسالها؟ فهي لا تنطق، لا تبوح، نظر إلي بازدراء متعاظم، قاسني من أخمص القدمين إلى قمة الرأس، ثم سأل، ما علاقتك بالسؤال؟ قلت: المعرفة، قال: أنت تبحث عن شيء آخر، لا علاقة له بالمعرفة، قد تجده يوما، إن تحولت إلى إنسان، قلت: وما علاقتك بالجدول؟ قال: اسأل الجدول. قلت: الجدول لا يجيب، لا يعرف لغة الحروف، قال: وهل تعرفها أنت؟ قلت نعم، قال: اوتظن أن بينك وبين الوهم فرق كبير؟ ونهض من مكانه، التفت نحو قمة الجبل المتصل بالصخرة، نظر في عيني، أرسل شهقة، قال: أليس غريبا لك أن يكون الجدول نابعا من قدم الجبل لا من قمته؟ وقبل أن أجيب استدار نحو الطريق، وبدأ رحلة الابتعاد عن دهشة عقدت كياني وغلت روحي.
بدأت جمله تسير نحو شخصيتي الروائية، تمد جذورها بعمق وصلابة، ذات يوم، قدر لي أن أرى جذور شجرة التين التي تبدو هشة من الخارج، فغصونها غير متماسكة، غير صلبة، تعودنا منذ الطفولة أن نسمع الناس، أهل الخبرة بالأرض والزراعة، يصفون شجر التين بالخواء من القوة والصلابة، هم يعرفون ذلك بالتواتر، بالعادة، بالتنقل بين أنواع الأشجار، لكن نحن، كنا نعرف الأمر عن طريقهم فقط، وعن طريقهم عرفنا شجر الحور القابل للتشكل والطي، وكذلك شجر البلوط الغارق بأساطير القوة والمتانة والصلابة، ومنهم أيضا عرفنا، معنى النور الناهض من زيت الزيتون المعمر، لكن جذور التين، عرفتها بالرؤيا، حين بدأت الحفارة العملاقة بنزع الأرض من قاعها، كنا نشاهد الجذور وهي تخرج على فم الحفارة وهي ملتفة على بعضها، متكاتفة، شاقة طريقها بين زوايا الصخور ومفاصلها، وكأنها تملك دماغا قادرا على تحديد نقطة الضعف الكامنة في مفصل الصخر لتندس من خلاله وتتضخم، فتشق الصخر وتفتته، وتمتد بين مفاصل أخرى وأخرى، فتبدو وكأنها تخوض ملحمة تاريخية، لا ينهيها فم حفارة عملاقة، أو خروج صخرة من باطن الأرض لتصبح معلما من معالم المشاهدة اليومية للعيون التي قدر لها أن تمعن النظر بتلك الصخرة المنزوعة من باطن الأرض من اجل هدف بناء أو تسوية للأرض، لكن دون أن يخطر ببال احد، معنى انتقال الصخرة من قاع الأرض إلى السطح، وما يحمل هذا الانتقال من تبدل وتغير، للمكان والزمان.
فالمكان ، لم يكن قبل لحظات من انتشال الصخرة ، يشكل نفس التضاريس التي بركت الصخرة فوقها ، والزمن ، لم يكن قبل تلك اللحظات هو ذات الزمن الذي سبق خروج الصخرة إلى المشهد ، بل بدأ عصر جديد ، يمتلكه محسوس الجغرافيا ، ويتغلغل فيه عمق الانسياب غير المرئي للزمن المولود والمتكيف مع العهد الجديد لتلك البقعة الصغيرة ، لكن الأمر الأكثر أهمية من كل ذلك ، هو جذر التينة التي اقتحمت مكونات وعينا والتصقت به ، لتشكل حيزا من ذاكرة نعرفها ولا نستطيع لمسها ، مع زمن تبدل فيه إدراكنا حول شجرة التين ، لتتشابه تلك اللحظات مع اللحظات التي غيرت معلم المكان والزمان عند خروج الصخرة من مكمنها لتتلاحم مع المشهد الجديد .
حين بحت للناس بهذا النزر اليسير من التفكير ، وحين قلت لهم ، بأنني قادر على كتابة ألف صفحة حول المشهد الجديد ، تلفتوا نحو بعضهم ، تهامسوا ، واخفوا بسمة غارقة بالسخرية والاستغراب ، وكان هذا أيضا ، مشهدا جديدا متصلا بمشهد الصخرة ذاتها ، ولو أخبرتهم يومها ، بأنهم جميعا ، في لحظة ما تحولوا إلى مكون من مكونات ما سخروا واستهزؤوا منه ، لطاحت عقولهم ، وانخمدت رؤاهم ، فتركتهم ، وتوجهت نحو السهل ، حيث ترقد الصخرة التي تعانق صديقنا غريب الأطوار ، لا لشيء ، سوى أنني احتاج إلى حالة من السهوم ، تدفعني لسؤال الصخرة عملا بغرابة النصيحة التي أسداها لي ذاك الرجل .
وجدته هناك ، يجلس كعادته ، غارقا في السهوم المبطن ، اقتربت منه ، وبدأت أحدثه عن جذور التين ، وأسهبت بوصف المتانة والخبرة التي تملكها الجذور ، وانقلبت فورا إلى إسهاب مفرط لوصف هشاشة الأغصان ، ولأول مرة منذ عهد بعيد ، أدار رأسه وتبسم ، كانت ابتسامته تحمل مواصفات الشخصية الروائية ، دون تجميل أو تنميق ، وبدت الملامح عن قرب ، مع اختلاطها بالابتسامة ، نافرة ، تخرج من عهود متشابكة متكاتفة ، حتى انعقاد الجبين ، كان يخفي بين الطيات مشهدا أسطوريا ملفعا بهلام الغموض الذي يفيض نحو المجهول .
قال لي : أكثر الأمور تعقيدا أن تحاول الانحدار نحو الغباء ، أو الإحساس بطبيعة تقودك نحو مفهوم يوحي لك بأنك غبي ، الناس تعيش بسعادة مفرطة لأنها تمتلك الغباء ، ضمن مكونات وجودها ، تركيبتها القابلة للي والكسر والتهشيم ، في كل لحظة وثانية ، لكنك الآن تمتلك إدراكا جديدا يباعد بينك وبين امتلاك تلك النعمة ، التي تبدو على الوجوه بسمات تشبه البسمة التي التصقت بوجودهم ساعة حدثتهم عن الصخرة ، أنا كنت هناك ، ليس بعيدا عنك ، سمعتك وأنت تتحدث عن الصخرة ، عن التشكيل الجديد للوجود ، لماهية الزمن والمكان ، رايتهم وهم يخفون الدهشة والانشداه ، ثم رايتهم كيف اخرجوا كل ذلك ببسمة تكاد تجزم يقينا بجنونك المؤجج .
قلت : كنت سأحدثهم عن أنفسهم ، عن بسمتهم ، كيف اختلطت باللحظات ، بالهنيهات ، بالأنفاس ، بالصخرة ، بي ، بك ، بالزمان والمكان ، كنت سأحدثهم عن مشاعر الزمن ، عن غضب الأرض التي غطتها الصخرة فحالت بينها وبين الشمس ، وكنت سأحدثهم عن غضب الصخرة ذاتها لأنها اقتلعت من مكانها الظليل لتصطلي بأشعة الشمس ، بل وكنت سأسهب في وصف التناقض بين الغضبين ، قلت لهم ، إنني قادر على كتابة ألف صفحة حول المشهد ، لكنهم تبسموا بسخرية ، أوقعتني بشعور غريب ، يتضارب مع كل ذلك ، شعور الخجل ، هل من الممكن أن يجتمع ما حدث مع الخجل ؟ أم أن هناك شيئا خفيا انبت الخجل في ذاتي .
قال : أتدري ، كنت قبل أيام أظن بأنني الوحيد الذي يسعى خلف انهيار النسمات ، واختفاء الليل حين يأتي الصباح ، لكنني الآن اشعر بالرضا ، فهناك أنت ، صحيح أننا لا نتشابه في الكثير ، بل ربما نختلف في كل التفاصيل ، لكننا نجتمع على حقيقة تأبى الانفصال عنا ، أنا كنت ابحث هنا عن عزلة خاصة ، تدفعني للحديث مع الصخرة ، أو عين الماء ، كنت أسعى للوصول إلى الغباء بكل ما املك من قوة ، تحزمت بالصمت أمام الناس ، وأسهبت بالتفاصيل مع الأشياء ، قلت ، لعل الجنون يأتي ، فان كان الغباء مستحيلا ، فليس أيسر من الجنون ، هذا ما قاله لي احد المارة يوما ، وحين تبعته ، وجدته يدخل كهفا ، استرقت السمع ، كان يبكي ، بحرقة ، بألم مستبد قاهر متأجج ، أحسست بالرجفة ، توقفت النسمات التي كنت أطاردها، بدا الصدى القادم من داخل الكهف يتسرب إلى أعماقي ، كل الدموع الساقطة اندفعت إلى تفاصيلي ، تدحرج الألم إلى قلبي ، أحسست بحاجة إلى البكاء الشديد ، لكن النفس أبت ، فتلوى الألم بداخلي كأفعى أرهقها سمها المشتعل حرارة ، اندفعت إلى الداخل ، التقت العيون ، صمت ثقيل ممض ، ثم نهض ، امسك بحفنة تراب ونثرها في المكان وهو يقول ، كم من الوقت احتاج لتذروني هكذا .
ترددت نحو الكهف كثيرا ، كنت ابحث عنه ، لا اعرف لماذا أحسست انه جزء من تكويني ، أحسست به يعوم بداخلي ، بطريقة زئبقية ثقيلة ، لكني لم أجده ، كل ما كنت اسمعه صوت البكاء القابع بأعماق الكهف ، ربما يأتي يوم وأخذك إلى هناك ، أنا واثق بأنك ستسمع صوت البكاء ، لكن غيرك لن يسمع .
جذور التين التي حدثت الناس عنها ، عن خبرتها ، تحمل ملامح ذاك الشخص الغريب ، لكنك لم تشعر بذلك ، لأنك تحدثت إلى من لا يعلم عن الجذر القادر على التوزع بين طيات الأرض والصخر ، بين أساسات البيوت والأسوار ، لتشارك الناس أسرارها ، فهي تمتد لتعرف ، لتحيا ، لتقول أشياء وأشياء ، لكن الجذور مثلك ومثلي ومثل الغريب ، تحاول بكل ما تملك أن تصل إلى نقطة الجنون ، فتفشل .
قلت : أنا وأنت نختلف ، في كل شيء ، قد يبدو للوهلة الأولى أننا نلتقي في البحث عن التفاصيل الغارقة بالنسيان ، بالإهمال ، بعدم الملاحظة والاكتراث ، لكننا نختلف في الهدف ، أنت تنظر لكل شيء من ناحية خاصة ، فيها غموض مبهم ، لا يعترف بالواقع ، ولا يبنى على المحسوس إلا من خلال انبثاقه من اللامحسوس ، أما أنا ، فان الأشياء التي ابحث عنها ، أطاردها ، ألاحقها ، متصلة بشيء من رغبة عارمة للخوض بمرحلة الغموض من اجل امتلاك الألم المحشو بالوجع ، أنا ابحث عن أشياء لا يعرفها الناس ، تماما مثل الصخرة التي خرجت من باطن الأرض ، لتشكل وجودا جديدا للواقع المرئي وغير المرئي ، لذلك تراني اغرق بتفاصيل الواقع الجديد بكل تفصيلاته ، كواقع الجغرافيا المتغيرة بتغير المكان بعد صعود الصخرة إلى السطح ، واستطيع أن أسعى خلف تفاصيل كثيرة لم تكن موجودة قبل ذلك ، فانا استطيع الآن أن أقول خلف الصخرة وأمامها ، تحت الصخرة وفوقها ، على بعد ميل من الصخرة أو ميلين ، ولو أردت الاسترسال بذلك وما شابه ذلك ، فإنني استطيع أن اسحب الزمن والجغرافيا بصورة متحركة تنتقل من ساعة إلى ساعة ، لأخرج تفاصيل جديدة للوجود ، لا يمكن لغيري إخراجها ، أنا ببساطة ابحث عن تفاصيل تتعلق بي لوحدي ، تشهد باني صانعها ومكونها ، فاتح زمنها وأرضها للناس ، بصورة غير معهودة ، لم يتنبه لها الناس من قبل ، لكنها أصبحت بعد إخراجي مادة وجود وحياة ، بالإعجاب أو السخرية ، الأمر سيان ، لأنها أخذت من مساحة العقل والزمن والمكان والأثير حيزا غير محدود .
ولو أردت الاسترسال لصنعت من السخرية مادة جديدة ، وكذلك من الإعجاب ، لاستطيع إحياء فكرة من فكرة ، وجود من جود ، وهكذا إلى تنتهي الحياة ويتوقف العمر .
دعني أسألك سؤالا غريبا ، هل تستطيع أنت وكل أهل الأرض ، أن تعيدوا إحساس الناس يوم سخروا مني ؟ وهل تستطيعون استعادة نفس الإحساس الذي انتابني يوم ذاك ؟ الثواني التي مرت وانقضت ، اندثرت في عالم الخفاء ، أصبحت من أكثر المستحيلات استحالة ، وكذلك العمر الذي انقضى من كل الناس الذين شكلوا المشهد في تلك اللحظات ، هل أدركت الفرق بيني وبينك ؟ بين ما ابحث عنه أنا ، وبين ما تبحث عنه أنت ؟
أنا ببساطة انظر إليك أنت تحديدا ، نظرة قصصية ، أريد البناء عليها ، استلهم التفاصيل الدقيقة جدا ، من صخرتك ، من نبع الماء ، من الصخرة التي أصبحت واقعا فوق الأرض ، من جذور التين ، من الناس الذين شاركوا بالمشهد ، من الكهف والدموع ، ومن أشياء متنافرة مختلفة ، استلهم كل ذلك ، من اجل دمجه بصورة مطلقة مع شخصيتك التي أريد تركيبها ، بنائها ، لاخرجها للقارئ بصورة خاصة ، تعيش بداخلي ، بعقلي ، وفق دفقات الألم المتكور كعقد الساحرات اللواتي ينفثن بأعماقي ظمأ البحث عن الم يكمن بتفاصيل جديدة .
قال : اليأس يعيش مع الكلمات ، كم من المرات تحولت من إصبع إلى فعل ؟ أظن ليس كثيرا ، بل وربما كنت تتقن فقط ما يتقنه الناس ، بالسليقة ، بالعادة ، الفرق بين أن تتقن فعل الأشياء وبين أن تحمل القلم هائل ، هذا لا يعني بان القلم ليس فعلا ، لكن الصفحات هي التي تحول القلم إلى حقيقة من الوجود ، بما تحمل من أفكار ، من قدرة على التأثير في مسار الحياة ، في نفوس الناس ، في إنضاج الحرية إلى حد الانتقال من معرفة الظلم إلى مرحلة الإحساس فيه ، هكذا قال غيفارا ، الذي تنقل بين مساحات الأرض للحصول على الحرية ، ليس لوطنه ، بل للأوطان الأخرى .
المهم ، أنت تبحث عن مادة للرواية ، للقصة ، أليس من المفروض أن تكون هناك شخصية ، وحدث ، وعقدة ، وحشو وحل ، أنت تتحدث عن جذور التين والفرق بينها وبين الأغصان ، عن الصخرة وتحول الزمن ، وانبثاق وجود جديد ، تتحدث عني ، هل كل هذا يشكل قصة أو رواية ؟
قلت : لماذا علي أن انساق وراء ما قلت ، كثير تحدث عن الرواية والقصة بما قلت ، ولكن ، هل علي أن اقبل بذلك ؟ أن ازحف خلف خطوات ربما أكل الزمن حيثياتها كلها ؟
جذور التين وحدها رواية ، رجل الكهف رواية ، أنت رواية من نوع جديد ، علي أن اخترق كل الخطوط القديمة لأجعل الفكرة هي المسيطرة على الصفحات ، بعيدا عن التماس أو اختراع شخصيات ايجابية ، من خيال متقد ، مفعم بالحلم الساكن أعماق هواجسنا المضطربة ، المولودة من واقع يائس ، لماذا على أن اصدق شخصية الطروسي ، التي خرجت من الحلم المنهك المرهق ، لترسم خطوات لا يصنعها إلا الخيال الموبوء بالحلم الايجابي ، لماذا علي أن أعيش واصدق شخصية الهجان ، التي أتت من قعر هزيمة الفكرة التي تأسست من هزيمة الأمة ؟
أنا اكتب عنك أنت ، كمثل اعشقه ، ينأى عن المجتمع ، ينظر إلى الأمور من بصيرة الصمت والتأمل ، بقدرة الانزواء عن عالم يفيض بتفاهة الفكرة والممارسة والفعل والكتابة ، اكتب عن دموع صاحب الكهف الذي سمعت بكاءه وهو يسأل متى سيتحول إلى رماد ، اكتب عن الصخرة التي خرجت لتصنع رغم انف العالم بأسره واقعا جديدا في الوجود ، واكتب عن جدول الماء المنساب من تحتك ، من تحت صخرتك التي حملت هموم الجبال والنسمات والسهول بصمت موصول بصمت ، أتدري لماذا ؟ لأنها أدركت أن قيمة الإنسان ضئيلة ، اقل من أن تقبل بالتحول من الجماد إلى الإنسان .
أنت كغيرك من الناس ، تلهثون خلف الشخصية التي يصنعها الراوي من خياله ، في لحظة عجزه وانهياره ويأسه ، وإلا فبأي المقاييس تكون شخصية الطروسي أو سعيد حزوم ، متوافقة مع الواقع ، مع الحقيقة ، كيف لم تتنبهوا بأنها مصنوعة من سراب يقود إلى مساحات هائلة من الوهم المفتوح المتتالي، ربما لأنكم تبحثون عن الخلاص من يأس أنفسكم تبحثون عن خرافة البطولة ، عن وهم الشخصية التي تستطيع تعويضكم عن عجز مقيم بكل ما تملكون من وعي الهزيمة والاندحار ، لو تأملتم رواية كوخ العم توم ، لأدركتم وبعمق اليقين بأنها فتيل الحرب الأهلية في الجنوب الأمريكي ، ولو عرفتم رواية رسائل من منزل الأموات ، لأدركتم بأنها كانت تتجه نحو الإطاحة بظلم القياصرة في روسيا ، والروايتان لم تتناولا ولو للحظة واحدة ، أسطورة بطولة الرواية العربية ، ولم تتناول ابتذال الفكرة وتسطيحها من اجل الشهرة أو المال .
هارييت بيتشر ستو ، ودوستويفسكي ، عاشا حياة الناس ، أدركا عمق التحطم الوجداني ، وأدركا ببصيرة لا تقبل الشك أو النقض ، أن الانغماس والإغراق بتفاصيل الواقع ، تحمل الفكرة السامية التي يجب أن تحتل الرواية ، دون الحاجة إلى الإغراق في محاولة صقل شخصية تحمل مواصفات السراب والخيال والهزيمة .
وأنا أحاول بكل ما املك الابتعاد عن تلك الشخصيات الغارقة بالوصف المتهالك ، لذلك أرى فيك أنت ، ورجل الكهف مادة حية ، وفي نفسي مادة أخرى ، تلتقي مع شخصيتك ورجل الكهف بأشياء ، وتختلف بأشياء ، سأحدثك عنها لاحقا ، وربما اصمت ، الأمر مرهون بالدفق القادم منكما ، لكن الآن دعني أعود إلى جذور التين من جديد .
لماذا استطاعت جذور التين ، بكل ما تملك من قوة ، أن تخترق الصخر والاسمنت ، لتمد جذورها حول الصخور وحول المنازل ، ولتوزع وجودها هنا وهناك في باطن الأرض ؟ لأنها ببساطة أدركت أن مأساة العم توم كانت في بقاءه على نفس البقعة من الأرض التي حوت عبوديته ، ولأنها عرفت أن ساكن منزل الأموات ، لم يشق الجدار ليخرج حيث النور ، حيث الشمس ، لذلك أرست جذورها ، اخترقت طبقات الأرض ، زاحمت الصخر والاسمنت ، فتعالت ، تسامقت ، وحين أتت الحفارة لتنزعها من الوجود ، خرجت الجذور من قاع الأرض إلى النور إلى الشمس ، إلى الحرية ، وأخرجت معها كما من التراب والأحجار والحصى ، كما أخرجت تلك الصخرة التي أصبحت مكونا من مكونات الوجود الظاهر للنور والشمس والهواء .
هي أدركت المعادلة ، بصمت ، بدأب العمل الذي كان يتم تحت الأرض وبين الصخر والاسمنت ، وقبلت ، دون أدنى احتجاج مقولة متوارثة عن هشاشة أغصانها ، فانتصرت ، على قاع الأرض ، وعلى ظاهرها ، لكنها ظلت تنظر إلينا بازدراء ، باحتقار ، حين نشفت وقمنا بتهشيمها ظنا منا بأنها تلاشت واندثرت ، في حين أن هباءها انتشر في الأرض من جديد ليمنح الجذور القابعة للأشجار السامقة استمرارية البقاء والوجود .
جذور التين هي الشخصية الأساس للقصة ، أنت جزء بسيط من الحدث ، لكن الصخرة تشكل محورا من محاورها المهمة ، رجل الكهف جزء بسيط ، الناس المحيطة بالوطن ، ربما لا تشكل شيئا منها ، لكن الأب الذي يعود بعد حلول الظلام ويقرفص بقدميه المهدودتين من التعب والألم ليقبل أطفاله النيام ، هو الشخصية المشتركة بين الحدث وبين جذور التين وبيني وبينك ، والاهم بين الحروف والصفحات .
قال : أنت تستحق الشفقة أكثر مني ومن رجل الكهف ، أنت مأساة جديدة ، من نوع خاص ، تتعمق في اختراع العذاب والألم ، في ابتكار ألوان العذاب والوجع ، أنت حقا تحيا بلا هدف ، قد يكون هناك هاجسا يخفق بأعماقك بوجود هدف ما ، تعيش فيه ومن اجله ، لكن تفاصيل وجهك وأنت تتحدث ، تشابه تفاصيل راسلينكوف لحظة تخطيطه للجريمة ، ولحظة انقلابه وندمه على النقود التي منحها للشرطي كي ينقذ الفتاة من براثن المتسكع ، لكن شيئا ما يدور كهالات من وهج البرق يظهر ويختفي حول جسدك ، ربما هي الصاعقة ، وربما هو نذير ما ، غامض ومجهول ، يستعد للظهور والبقاء ، كما ظهرت جذور التينة .
لكن المؤكد ، أن بينك وبين الجنون مساحة بعيدة ، فلا ترهق نفسك بالبحث عن ساعة جنون أو غباء ، بل ابحث عن مساحات جديدة تبعدك عما يعيش فيك ويكبر ، كجنين خرافي يتمدد دون طول أو تضخم ، بل ينتشر بكل جزء فيك ليصبح المكون الوحيد لما هو بَينٌ منك وظاهر .
قبل اليوم كنت اشعر بثقلك من مطاردتي ، وكنت اسأل نفسي كثيرا ، ما الذي يدفعك للاقتراب مني ؟ اليوم فقط عرفت أن مصطفى سعيد لم يكمل هجرته إلى الشمال ، بل بقي على ارض طفولته الموبوءة بنهايته الغريبة .
قلت : وهكذا ستبقى أنت ، ورجل الكهف ، وأنا ، في الأرض التي اخترعناها لتمنعنا من الهجرة إلى حيث الهجرة ، أنت افترشت الصمت والانزواء ، ورجل الكهف افترش الدموع ، وأنا افترشت الحروف والوجع والألم ، تحدثنا عن الصخرتين ، عن جذور التين ، عن عين الماء ، وعدنا لنعيش حالة الشفقة ، على بعضنا ، دون أن ندرك بان الشفقة هي مكون من مكونات اليأس ، من مكونات القنوط ، مصطفى سعيد بقي في أرضه الموبوءة بنهايته ، لكن غيفارا ، خرج من قمقم الأرض إلى الفضاء ، تماما كجذور التين ، وحين تهشم ، توزع على الكون ، ليمد الناس بغذاء البقاء والاستمرارية .
قال : قلت بأنك ستحدثني عن الافتراق والالتقاء بين شخصيتك وشخصيتي وشخصية رجل الكهف .
قلت : قد حدثتك ، والآن أدرك تماما ، لماذا عافت الصخرة وجودك فوقها . وعاف الكهف ساكنه .
قال : ألن تكمل ؟
قلت : ربما .
مامون احمد مصطفى