‫‫لفظو عاجز

‫‫‫لفظو عاجز
[JUSTIFY] ظللت أتابع بحرص كل ما كتب عن الواقعة المؤسفة، والمتمثلة في إعلان إحدى الصحف عن فتح باب التقديم للغيد الحسان تحديدا للعمل بدولة خليجية، شريطة أن يكن (سمبتيك) .. من ذوات اللون الفاتح لا يشكين طولا ولا قصرا، وعلى ألا تكون بأجسامهن أي آثار لتشوهات خلقية أو بفعل فاعل .. لطشة شونة .. ضربة مطوة .. أي علامة مميزة يعني ..
المهم كما هو متوقع أثار الإعلان الفج، حفيظة كل سوداني غيور على عرض وسمعة أخواتنا وبناتنا السودانيات، ولكني فضلت الانتظار حتى تنقشع غمامة الحزن والأسى وكسر الخاطر التي تسبب فيها نشر الإعلان، حتى أناقش الواقعة بموضوعية أشعر بأنها غابت عن بعض من تناول جوانب الموضوع ..
حسنا يا جماعة، أهلنا قالوا اللوم بجي بالغفلات، وبعيدا عن محاكمة النوايا ومافي الضمائر، لا أعتقد أن هناك نية مبيتة للإساءة، على الأقل من الصحيفة أو الوزارة المعنية، ولا يخرج تصريف الفعل الذميم عن نهج السبهللية والشغل العدي من وشك، والغفلة التي أدت لتسرب هكذا إعلان الى العلن .. أكاد أجزم بأنه لا توجد أي مراجعة أو تدقيق لفحوى الإعلانات التي تنزل في الصحف .. على الأقل خلونا نحسن الظن في أنفسنا بفهم (الزول ما بشيل يدو يطبز بيها عينو) .. فتلك المواصفات المهينة للإنسانية موجهة الى جزء من دمنا ولحمنا وقبل ذلك عروضنا التي لا يجوز في حقها التفريط ..
حسنا تاني، أهلنا الكبار بيقولوا على الزول الما بعرف يوزن كلامو بأنه (لفظو عاجز) أو (طبيز عديم الميز) .. باقي لي والله أعلم، أن اللوم الحقيقي يقع على وكالة التوظيف التي صاغت الإعلان، وذلك لأننا تعودنا من قبل على الاستغلال التجاري المهين لجمال المرأة وشكلها الخارجي، واتخاذها وسيلة ترويج بل وسلعة في حد ذاتها أحيانا، ولكن كان الأمر يتم (كتّيمي) دون الإفصاح عنه .. تعلن عن المؤهلات المطلوبة والشهادات، ثم عندما تتقدم المرشحات للمعاينات تتم التصفيات بواسطة نظام المعاينة بـ (النظر) .. على طريقة (الضعيف بقع والسمين بقيف) لا صور ولا يحزنون!!
يا جماعة الخير المواصفات التي طلبتها الوكالة وأشعرتنا بالإهانة الشديدة، هي نفسها التي تستعمل في اختيار مذيعات التلفزيون، مضيفات الطيران، موظفات شركات السياحة، عارضات الأزياء وتلك مهنة تسللت إلينا مؤخرا من أبوابنا الخلفية، بل وحتى نادلات المطاعم السياحية .. كلهن يتم اختيارهن بناءً على اللون الفاتح والقوام السمهري .. الجمال ورشاقة الفتيل الما بشيل كتير، وكلها شروط تهين إنسانية المرأة وتتعامل معها كمصدر للمتعة البصرية وبضاعة في سوق النخاسة .. إذن لم يكن الجديد في الأمر قواعد الاختيار بل كان التصريح بها .. زول الوكالة طلع (أهوج) و(لفظو عاجز) فصرح بما لا يقال !!
ومما زاد الطين بلة وفاقم الإحساس بالمهانة، دخول أطراف أجنبية في الموضوع، فـحالة كون أن الجهة الطالبة للتوظيف هي دولة خليجية، ضغطت على جرح ملتهب وأعادت فتح ملف السودانيات العاملات بالخارج.
كتبت من قبل عن شعوري بالحزن والغبن كلما قمت بزيارة أحد مراكز الحناء في الإمارات، ومراقبتي للظروف الصعبة التي تعمل بها بناتنا الحنانات، فغالبا ما تقوم صاحبة الكوفير بإجبارهن على العمل لساعات طويلة مضنية، وبعضهن يقمن بصورة دائمة في المحل وينمن في ظروف بيئية سامة، كما كتبت عن لقائي أكثر من مرة بسودانيات يعملن كعاملات نظافة في حمامات السيدات بمطار دبي، وكيف أن هناك شريحة كبيرة من السيدات السودانيات اللاتي دفعتهن الظروف المعيشة القاسية والالتزامات الأسرية إلى مرمطة الغربة، ومزاولة المهن الهامشية لسد تلك الاحتياجات، ولا عيب في ذلك طالما أنهن يأكلن من عرق جبينهن عن طريق العمل الشريف ……
نساؤنا أو بالتحديد أكثر بناتنا في الخارج، لا نخاف عليهن من عرق الجبين، ولكنها المخافة من وقوعهن في مطب ظروف الغربة القاسية، التي قد تقودهن لشراك الرذيلة ودروب المهالك، أما العمل الشريف في بلدنا هنا أو بـ(هناك) فلا غبار عليه، وكم من أرملة غادرها الزوج للدار الآخرة مخلفا خلفه (كوم لحم) لم يترك لهم في الدنيا من مال ولا طين، فعكفت عليهم تعولهم وتربيهم من عرق جبينها، وكم من صاج عواسة أو طعمية أو مكنة خياطة أو حتى كانون وكفتيرة شاي، قاموا بتربية أبناء تخرجوا من الجامعات ليقوموا بدورهم في إراحة أمهاتهم ومواصلة المشوار بفهم أهلنا الطيبين (يكبروا الصغار ويزيلوا الغبار) ..
نحن ضد الغربة المجهجهة لبناتنا بالذات – لأنهن سفيراتنا في الخارج، ومجرد حادثة واحدة مشينة من إحداهن قد تترك من الصدى والصيت السيئ لدى الآخرين، ما لا يزيله انضباط آلاف من الأخريات اللاتي شكل سلوكهن المشرف وسمعتهن الناصعة صيتنا الحسن عبر السنوات ..
هذا لا يعني أنني أدعو لحجر سفر بناتنا للخارج فلا بأس في ذلك، ولكن يجب أن يسبقه التخطيط والرؤية الواضحة لمآلات الأمور .. فمثلا حكيت من قبل عندما كنت في زيارة لسوق شعبي في لندن، خاص بالعرب والهنود والباكستان وشبيه بسوقنا الشعبي أو سعد قشره، فأثناء تجوالي فجأة سمعت صوت يناديني بفرحة .. التفت لأجد طالبة من طالباتي كنت قد درّستها في كلية العلوم بإحدى الجامعات العريقة .. حيتني بفرحة وسعدت بلقائها فقد كانت من بناتي المتفوقات المميزات وتخرجت بتقدير ممتاز، أخبرتني كما لاحظت أنا بنفسي أنها تعمل بائعة في أحد المحال التجارية الصغيرة في هذا السوق ..
لم أستنكف حينها ذلك فقد علمت منها أنها جاءت للدراسات العليا وتقيم مع شقيقتها المتزوجة، وتستفيد من وقتها في العمل حتى توفر مصاريف دراستها .. طبعا هذا الوضع يدعو للاحترام والتقدير فرغم أن البيع في المحلات التجارية قد لا يقره ويرضاه الكثيرون لبناتنا، إلا أن الرؤية الواضحة والتخطيط السليم ينفي الحرج..
على كل حال رب ضارة نافعة، فقد فتح الإعلان المسيء الآذان والعيون لملف خطير يختص بأوضاع نسائنا في الخارج، فقد تلقيت أكثر من مرة رسائل من إخوتنا المغتربين يدعونني فيها للكتابة عن وضع السودانيات في الخارج، وللحقيقة ملّت الأقلام والصحف من قبل في تنبيه أولي الأمر الغافلين، وكتبت شخصيا من قبل عن (التسرب اللطيف بحثا عن انبساطة الشريف)، ولكن التسرب كاد أن يتحول الى فيضان ولكل البلدان ..
في النهاية تعالوا لنتفق أن العمل الشريف أيا كان نوعه هو ضالة المسلم ذكرا كان أو أنثى في الداخل أو الخارج .. بس إياكم ومطبات ذوي اللفظ العاجز والمواصفات المسيئة .. تفتحوا علينا باب زي ده عاد الله قال بي قولكم .. انتظروا انتفاضة النساء في جمعات (رد الكرامة) !!‬

منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email]

[/JUSTIFY]
Exit mobile version