فكري ابو القاسم : ظاهرة الطيب مصطفى (2)

[JUSTIFY]قلنا في وقفة سابقة إن الطيب مصطفى المالك(الفعلي) السابق لجريدة الإنتباهة! الواسعة الإنتشار استطاع أن يخطف الأضواء بآرائه الجريئة في قضية انفصال الجنوب!!

حاولنا فحص تجربته بعيون الحزب الحاكم.. وقلنا هناك إنه يقوم بشيء من« توزيع الأدوار» ولكن رغم أنه يمثل أشواقهم إلا أنهم لا يتبنون علناً مواقفه.

أما المعارضة فتعتبره مباهياً بخلفياته العرقية وتضعه في خانة عنصري مثير للفتن!

خلاصة رأينا في الموقفين: أن المسافات التي تفصله الآن عن الحزب الحاكم لن تعفيه يوماً عند حساب الخسائر ومشروع« الإسلام السياسي» ثبت انتكاسته في إدارة الدولة. أما المعارضة لم تنصفه فلا يجب أن يعد عنصرياً، إنما متمترساً بهويته العربية في موقف دفاعي لا يحسد عليه. لا يطلب سوى (سلام عادل- وزفرات حرى) يتنفس بها وهو ينتبه ويصيح!!

بعد انفصال(الجنوب) انفتحت شهية كيانات عنصرية كانت نائمة، وبدأنا مرحلة (الجنوب الجديد)، في هذه المرحلة ستشهد الحرب (العنصرية) لخروج الدين (الكنيسة) من الصراع. لهذا تعمقت ظاهرة (جماعة الطيب مصطفى) وهذا الرجل أراد أو لم يرد سيتخذونه رمزاً للعدو (الشمالي).وإذا كان الطرق على هوية(عربية) متجذرة هي محور راية القتال لدى الشماليين إذن تعالوا نضع قضية الفرز اللوني هذا على(بلاطة) دون حساسية أوهروب ونناقش هذه النقاط:

ليس هنا في البيئة السودانية فرز لوني يمكن الاعتماد عليه في عملية ادعاء تفوق مقنع. وليس هناك أبيض أو أسود.. هناك فقط بشرة تحمل مقامات سواد! وذلك طبقاً للأختلافات المناخية الطفيفة. هذا الأمر انتبه إليه المؤرخون منذ آلاف السنين. في عهد التوراة قبل الميلاد اطلقوا علينا «أرض كوش» أما في العهد الروماني تمت تسميتنا باثيوبيا «الوجه المحروق» وما أطلقه العرب والمسلمين علينا هو الباقي الآن. كلها تسميات تشير الى معني واحد هو الأسود.

إذن طبقاً لهذا الفهم هناك شمال أسود وجنوب أكثر سوادًا. ويجب أن نواصل التفكير بالصوت العالي ونقول إن البشرة السوداء ليست مرغوبة في الوعي السوداني كما هو الحال عند غيره. اذا بحثنا عن كلمة «أسود» سنجدها هزيلة في القاموس السوداني. اذا اضطروا الى الإشارة الى البشرة السوداء يلتفوا حولها بمثل إطلاق مصطلح «أزرق» أو «أخضر».. يقولون إن فلاناً أزرق أو أخضر اللون! وعلى هذا يمكن القول إن السوداني (الشمالي والجنوبي) على حد سواء يهرب من جلده. الأسود الفاتح و في الشمال يهرب الى المساحيق والكريمات.وهناك «كريمات» كيماوية في تبييض لون البشرة!! وكريمات «ثقافية عرقية» لتبييض شجرة الأنساب بجذور ممتدة للجزيرة العربية وآل البيت!

أما طبقة العوام فتهرب الى عروبة ليس من السهل أثباتها في مفهومها العرقي. عندما يداهمهم الواقع اللوني يهربون الى مقارنة لونية مع الأكثر سواداً فيخرجون ببعض المكاسب !! ولكن هذا الحذر اللوني لا يبقى طويلاً عندما يتورط في مقاربة خارج الحدود مع عرب الخليج والمصريين والشوام. هناك ينتظره نزيف(الصدمة العرقية) بل أوجاع الغسيل الثقافي، هذه الأوجاع أشد من الأولي لأن فيها انهيار لثوابت القيم التي تربى عليها.

حكى أحد الجنوبيين الظرفاء كيف كان يسخر من أقرانه السودانيين الذين كانوا يسخرون من لون بشرته . كانوا يعملون معاً في الخليج في مهنة التدريس. يقول الجنوبي وهو غارق في الضحك إنه كان ينادي الخليجي ويقول له: إن هؤلاء يقولون إنهم عرباً..؟ ولأنه كان يعرف رد الفعل كان يحرض الخليجي عليهم.. يقول إن الخليجي كان يسألهم .. هل أنتم عرب؟ اذا كنتم كذلك..! ومن أكون أنا!! كان يضحك عليهم ويسقيهم من الكأس التي سقوهو منها.. كانوا يعتبرونه مجرد «عبد».. وها هو الخليجي يعد نفساً متفوقاً عليهم عرقياً (ما في حد أحسن من حد)! هكذا استطاعت الخلفية التربوية النظيفة والثقة بالنفس لدى هذا الجنوبي أن تعالج مثل هذه القضايا والتي من السهل على الإنسان ان يتكيف معها اذا توافرت شروط الصحة النفسية !

ولكن مهلاًَ ليس كل (الأكثر سواداً) في السودان حلوا مشاكلهم بطريقة هذا الرجل. الغالبية العظمى من (الجيل الجديد) مصاب بعقده نفسية من لون بشرته. هذه (الحالة) النفسية هي سبب الأرتباك لدى البحث عن مخارج . قساوة الأحتقار الإثني لا تغادر وعيهم، وليس لأن هناك مجتمعاً أو قانوناً يطاردهم بل لفعالية الدعاية الباقية من أجهزة (الجنوب) الكنسي القديم.

المقاومة لدى هؤلاء في أغلب مظاهرها انتحارية : بدلاً من محاربة مدعي العروبة يحاربون العرب والعروبة ! ولو سألتهم من هو العربي وماهي العروبة؟لن تجد أجابة سوى أنهم يشكون من(رأي) الآخرين.. اذا كانت حقوقك مصانة ما الذي يضيرك من(رأي الآخرين) فيك..؟ وهل من حقك أن تحجر على الآخرين آراءهم!!؟

هكذا(الطعم ) التبشيري بدأ مفعوله يغازل وعي بعض المثقفين الدارفوريين بعد عملية الإنفصال. لاحظت أناس سباقون الى برش الصلاة يسألون بأستحياء عن علاقة الإسلام بالرِّق!! تمويه مفاهيم (العروبة) من قبل التبشير المسيحي هو السبب في هذا الإرتباك في المفاهيم.

تجارة الرقيق التى بدأت بتمويل من الغرب الأوربي والتي كانت تدار تحت رعاية ملوك محليين «سود» وعن طريق بعض المحسوبين على العرب والمسلمين ، ألصقها التبشير بالكامل بالعرب الجلابة. وتم الترويج لها عن طريق مثقفي مجموعة ماكريري «كمبالاـ نيروبي ـ جوبا».

هذا الترويج الظالم الذي حدث نتيجة للاختراق المسيحي قديم جدًا. فقد روجوا من قبل لإتفاقية البقط التى عقدت بين ملك النوبة والوالي الإسلامي في مصر، بإعتبارها بنود فتوحات إسلامية، ولا ندري كيف يشترط والي مسلم (صحابي) على توفير هذا العدد المذكور من الرقيق ويشترط الخمرمع الرقيق. هذه الاتفاقية مشكوك في مصادرها، لأنها غير موثقة في مضابط الخلافة الإسلامية إلا لدى بعض المؤرخين. ولا يجب أن ننسى دورالكتاب الأقباط، واحتمال اضافة هذه النصوص في أزمان متأخرة!!والبقط كلمة قبطية تعني المعاهدة .

***

المفارقة في تهمة الرق هذه ، أن مبشرًا يقدس كتاباً منصوصاً فيه أن البشرة السوداء لعنة انزلتها السماء بأحد أبناء نوح يقنع غيره أن العبودية بضاعة إسلامية.

هذه العقد العرقية والحساسية اللونية هي التي ستجمع مثقفي(الجنوب الجديد). وهم الآن في حالة هجوم نتيجة للضخ المالي من قبل الكنيسة والدول الأوربية والرعاية القانونية. محاولة إحداث توازن في المجتمع السوداني بين إنسان (الشمال والجنوب) محمودة في حد ذاتها لأن الأزمة في الأصل ليست عرقية بقدر ما أنها اقتصادية ولكن هذه الطاقة الجديدة التي تحقن بها أوربا (الجنوب) الأكثر سوادًا موجهة وجهة خاطئة.

في غمرة (الفرحة) بحوافز العولمة اندفع هؤلاء وذهبوا بعيدًا في محاربة العرب والعروبة. نسوا انهم يحاربون (تاريخاً) لا يمكن أن يرضخ للوقائع الجديدة التي تفرضها أوربا على المجتمع السوداني ، مهما انتكست الأحزاب الإسلامية التي ما كانت تمثل إلا نفسها!

***

من هذا الباب دخلت ظاهرة(الطيب مصطفى)، ويبدو أنها ستتسع مسفرة عن وجهها أوضح من ذي قبل. كلما أمعن (الجنوب الجديد) في محاربة العروبة، ستصبح أطروحات (الطيب مصطفى) أعمق تمثيلاً لأشواق الغالبية العظمى من السودان الشمالي والأوسط والغرب الأدنى أو قل «مثلث حمدي»!

تصفيق(الطيب مصطفى) للإنفصال لم يكن أكثر من رد اعتبار للشمال المتضرر..! ومعلوم أن الأنفصال رغبة جنوبية تمت على يدهم.

ولم يكن في هذا الموقف غرابة..! بل الغريب هو موقف خصومه:

عابوا عليه أنه أعلن أفراحه.. للجنوبي أن يعلن ما شاء من كراهية للعرب والجلابة والمحمديين الكفرة.. ولكن ليس من حق الشمالي أن يفرح بذهابهم!! وللحقيقة هذا منطق غريب.. الجنوبيون لم يتركوا ذكرى حسنة في وعي الشمالي. فمنذ أن بدأوا بذبح اكثر من مئة شمالي في توريت عام 1955م وقد كانوا من المعلمين والتجار ودون أن تكون هناك حرب ـ فتحوا باباً للكراهية ، لم يكتفوا بذلك بل مارسوا الاحتقار والكراهية في وسط الخرطوم وقد بلغت البلطجة الجنوبية حدًا دفعت الدكتور قرنق نفسه ان يناشدهم «ادفعوا حق المواصلات كما يفعل ناس الخرطوم». هذه الذكريات السيئة التي تركها الجنوبيون في وعي الشمال هو سبب رواج المواقف المتحدية للأستاذ الطيب مصطفى!ولا يجب أن ننسى أن هذه الظاهرة ما زالت تعبر عن نفسها بطريقة خجولة. مازالوا يستجدون(سلاماً) عادلاً وأصواتهم مكبوته إلا زفرات الطيب مصطفى الحرى، ولا يستقيم أن ننعت من يعيش مثل هذا الحال عنصرياً!!

من سوء الحظ : لم يتغير شيء بعد الانفصال. الحال هو الحال. الجنوبيين الجدد يتبنون بشيء من الارتباك نفس شعارات (الجنوب القديم) وقد اكتسبوا حتى الآن حقاً قانونياً بالقرار (2046) بمعاونة أوربا. وحتماً سيستبدل الطيب مصطفى وجماعته عدوًا جديدًا من فصيلة العدو القديم!! ولكن المصيبة الكبرى أن التركيز على إحياء عقدة اللون والشعارات العنصرية سيكون أشد من ذي قبل لخروج محاربة (الإسلام) من الصراع باعتبار أن الأطراف جميعهم مسلمون . يرى ذلك واضحاً في وثيقة (الفجر الجديد). هناك من طالب بالاعتذار والسؤال سيبقي بيننا كاليتيم في موائد اللئام هو :- الاعتذار على ماذا.. ومن يعتذر لمن؟!!.

صحيفة آخر لحظة
ت.إ[/JUSTIFY]

Exit mobile version