مسار عرمان السياسي يقتفي أثر قرنق.. أين تتموضع خطاه بعد دوران طاحونة الحوار؟

[JUSTIFY]في وقت كانت فيه سحب الشائعات تطارد ياسر عرمان، على طريقة المشاهير، وتتناثر في الفضاء الإسفيري، كان الرجل في مكان ما هناك يغطي وجهه الأسمر بابتسامة حالمة، ويتصفح رواية بوليسيّة، وعلى يمينه عصا ملوك نوبة الجبال. بُعيد ذلك بساعات يطلق الرئيس البشير بشارات الحوار، والسماح لحملة السلاح بدخول البلاد، والخروج منها دون مساءلة، مع توافر كافة الضمانات، ما انطوى عليه لسان الحال هو ذات المعنى: (متى دخل عرمان الخرطوم فهو آمن)، لأنّ الحافز المعنوي يتجاوز تعريف الأسماء والحيّز الزماني والمكاني، فهل اشتاق عرمان للعودة؟ وهل سيصعد محمولاً على الأعناق كما يشتهي ظافراً مثل الزعيم جون قرنق، ذلك الملهم الأزلي لشعب الجنوب؟

يبدو للكثيرين دوماً أنّ عرمان بارع في صناعة الجدل والإثارة، مثل دولفين بحري، ويعلم متى يستولي على الأضواء، ومتى يعود، ولذا هو لا يفكر في الرجعة على متن طائرة تضجّ بالمسافرين، حتى لا ينتهي مصيره كمناوي والسيسي. عودته إلى الخرطوم يجب أن تصحبها حملة جماهيرية صاخبة، وترقّب يوازي ترقّب المحبّين للقمر. تحالف قوى المعارضة الذي يتألف من تيارات مختلفة، تتقاطع رؤاه مع خلاصة تصور عرمان للحوار الوطني، الذي سمّاه بـ(سوق عكاظ)، فمنهم من ينظر إليه بوصفه (المخلّص الوحيد) من حكم الإنقاذ، ومنهم من تنتابه هواجس أنّ الرجل يتاجر بجراحهم ونضالاتهم في رصيد مجده الشخصي لا غير.. المؤكّد في كلّ الأحوال أنّه ابن بار للراحل قرنق دي مبيور، الذي نفض يده من التجمّع الوطني المعارض ساعة أسقط في يده بريق السلطة والثروة، ولكن ما الذي يمنع عرمان من بيع التحالف المعارض إذا أفضت (أديس) إلى اتفاق سلام بين القطاع والوطني أشبه بنيفاشا؟ فهل تسقط حينئذٍ ورقة الحلّ الشامل التي يلوح بها دوماً وفي أيّ مكان؟

لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما سيحدث، ولكن مسار عرمان السياسي، هو مسار الباحث عن شيء ضائع وموجود، ومع ذلك تبدو عودته تلبية لدعوة البشير شبه مستحيلة، وإن كانت حفاوة عرمان بالغناء والشعر والأماكن الرامزة هي وثبته للتوغّل إلى قلوب الجماهير، فالخرطوم هي المدينة التي تحتلّ مكاناً شامخاً في دواخله، كما إنّ حياة المنافي والترحال كادت تضرّ بوجدانه بحسب اعترافاته الباكية، فقُبيل أسابيع سألته (اليوم التالي) عن العودة، فكان يستدعي الوقائع القديمة ويجيب كمن يداوي نفسه بالأماني: “سألني دكتور قرنق ذات مرّة في مجلس الوزراء، خلال الأيّام البسيطة المضيئة التي أمضاها في الخرطوم: إذا أردت أن أخلق صلات قويّة مع مواطني هذه المدينة؛ فكيف أفعل ذلك؟. قلت له: يجب أن تفعل شيئين؛ أن تحضر كل مناسبة فرح وزاوج، وأن تذهب لتعزّي الناس في أتراحهم، لتنشأ بينك وبينهم أقوى الصلات. فضحك، لذلك أنا أحبّ رائحة الأرض والناس والنيل في هذه المدينة العظيمة”. لم يكتف عرمان، القائد الذي يتخلق بعيداً عن رائحة النيل، بذلك، ولكنه كان قد اختار قبلها أن يدشن حملته الانتخابية السابقة في ساحة الديوم الشعبيّة، قريباً من الناس، وبصوت عركي، وبعدها شدّ الرحال إلى آثار البجراويّة، كمثقّف مفتون بحضارة أجداداه.

ذات خميس استقبلته العاصمة النيليّة وهو يلوّح بيده بعد أول زيارة له إلى الخرطوم، منذ أن تمّ اختياره مرشحاً لرئاسة الجمهوريّة من قبل الحركة الشعبية، وقبلها بيومين من العودة قدمه سلفاكير للبشير في احتفالات السلام بيامبيو ضاحكاً: “هذا مرشحنا ضدك”، لتنطلق صافرة السباق المحموم من هناك.

عرمان هو الخصم العنيد للمشروع الحضاري، وبينه والإسلاميين ما صنع الحداد، ولذلك يتوقّع البعض أن يواجه بحملة ضارية في وسائل الإعلام التابعة للمؤتمر الوطني إذا قرّر العودة، ولكنها حملة قابلة للمدافعة، فالنيران الصديقة لن تخطئ أهدافها، ولعرمان أصدقاء يؤمنون بمشروعه، وعلى استعداد للاستماتة في الدفاع عنه، فضلاً عن ذلك، هو نفسه لا تعوزه الخبرة الكافية في الدفاع عن مواقفه، ولا تقديم نفسه تحت الأضواء الكاشفة؛ زاده في ذلك قناعاته الراسخة، وجذور ممتدّة في الشمال، تجعل أيّما منافسة بينه والآخرين أكثر عدلاً من حيث الامتيازات الافتراضيّة.

صحيفة اليوم التالي
عزمي عبدالرازق
ت.إ[/JUSTIFY]

Exit mobile version