جمال علي حسن : الحريات وجهاز الأمن

هل الدولة هي التي توجه الأمن، أم أن الأمن هو الذي يوجه الدولة؟.
طبعاً هو موضوع جدلي مستمر في الكثير من مجالس السياسة ونقاشات المثقفين .. هل جهاز الأمن هو الذي يبادر ويقرر تحديد سقف الحريات حسب تقديراته الأمنية والمعلومات المتوفرة لديه؟، أم أن جهاز الأمن في السودان أو أي مكان هو جهة فنية تقوم بتوفير وتحليل المعلومات ثم تقديم تقاريرها ومعلوماتها توصياتها بعد أن تحدد درجة الخطر ومكانه وزمانه، أما مهامها الأمنية الأخرى فتظل خاضعة في نهاية الأمر للقرار أو التوجيه الصادر من قيادة الدولة؟.
لو كانت الفرضية الأولى صحيحة بأن الأمن هو الذي يوجه الدولة، فإن الحوار السياسي القائم الآن وحتى يكون واقعياً يجب أن يتم بين الأحزاب وجهاز الأمن، وهذا غير منطقي وغير معقول ولا يمت للواقع بصلة.
حتى لو كانت تلك هي فكرة دكتور غازي صلاح الدين، وهو الرجل المدرك أكثر من الآخرين في المعارضة لطبيعة عمل الإنقاذ، نقول له إن تلك الفكرة غير دقيقة، ولا عجب في استدراكنا أو في أن يكون غازي قد قضي كل هذه السنوات بالقرب من كابينة القيادة وتغيبت عنه مثل هذه الحقيقة بتفاصيلها بحيث يدرك وبالدقة الكافية الإجابة عن السؤال: من الذي يتخذ القرار الأمني؟
لأن غازي رجل سياسي من النوع الذي لم تكن له أية علاقة أو اهتمامات مباشرة بعمل هذه الأجهزة بحيث يدرك تفاصيل سرية غير متاحة لأحد وأهمها: من الذي يتخذ القرار الأمني أو يطلق التوجيه المستمر والذي يقوم الأمن بتنفيذه؟.
الخطأ الذي أرتكبه النخب السياسية بعد الانتفاضة ثم عادت لتصفه هي نفسها وبأقلامها على أن كان بمثابة كارثة، هذا الخطأ هو قرار حل جهاز أمن الدولة عام 1985م، والذي ترك السودان أمنياً مرمياً في العراء، فبعد أن سقطت أقوى أنظمة الأمن وأكثرها خبرة في المنطقة، ذاك الذي كانوا يسمونه جهاز أمن نميري، دخلت البلاد أضعف مرحلة أمنية في تاريخها فقد حدثت مداهمة ثورية فوضوية لمكاتب جهاز الأمن عام 85 ضاعت بسببها أخطر الوثائق الخاصة والمعلومات الإستراتيجية والملفات الاستخباراتية التاريخية والتي تمثل أرضية قوية للسيطرة على أمن البلاد.
جهاز الأمن هو الجهاز الذي يجب الحرص على تكليفه بالحفاظ على الحريات نفسها وحماية الحوار ومخرجاته بل حماية قرارات البشير الأربعة وليس العكس.
جهاز الأمن مؤسسة إستراتيجية لا يجب الحديث عن إبعادها ولا حتى تقليص دورها الفني بل مضاعفته وتركيزه وحمايته من الخطرفات التشريعية الانفعالية التي قد تضرب ظهره في أي مرحلة من المراحل.
نحن صحفيون في عهد الإنقاذ، منذ التسعينات وقد تدرجنا في المسؤوليات والمهام الصحفية حتى درجة رئيس تحرير في أصعب المراحل وعانينا ما عانينا من عمل جهاز الأمن الذي كان مكلفاً به، وتعرضت صحفنا ومقالاتنا للمصادرة القبلية والبعدية، وزرنا مكاتب الأمن مرات ومرات، لكننا وبرغم كل ذلك نقولها وبكل وعي إننا علي يقين بأن إضعاف جهاز الأمن في المرحلة القادمة يعني ضياع كل مكتسبات هذه المرحلة التي تحققت الآن وتلك التي يرجي تحقيقها في الأيام القادمة.
لا يمكن الاستعاضة أو الاستغناء عن جهاز الأمن في أي مرحلة من المراحل.
ولو حث تضييق استثنائي في الحريات في ا] وقت قادم فالمسؤولية حسب تقديري يتحملها متخذوا القرار السياسي ولا يتحملها جهاز الأمن، هذه حقيقة واضحة ومعروفة وليتها كانت مثبتة ومؤكداً عليها عام 85 ليتم منع من هاجوا وماجوا وانفعلوا وقاموا بتكسير جهاز الأمن في 85 وكأنه تمثال للرئيس نميري.
الغريب أنهم حلوا جهاز الأمن وتركوا نميري.. حلوه بليل وتركوا نميري حتى اختاره ربه على فراش ابيض، لأن التفكير كان لحظيا على طريقة (كلام الليل يمحوه النهار).
جهاز الأمن والمخابرات يجب أن يظل موجوداً بدوره الفني والأمني المعروف، بل هو الذي يشكل حماية لمكتسبات هذه المرحلة ولقرارات البشير وللحريات نفسها، بل على قيادات القوى السياسية أن تعقد مؤتمرات مشتركة مع قيادات الأمن حول أهمية ومهام جهاز الأمن ودوره في المرحلة القادمة وتطرح أفكارها لتطوير العمل الأمني الاستراتيجي في بلادنا داخلياً وخارجياً.

صحيفة اليوم التالي
ع.ش

Exit mobile version