و لاحظت أن الحوائط لم يقم الشيخ بطلائها منذ سنوات .و أن الأثاث بسيط للغاية، فلم يكن له – رحمه الله – دخل سوى راتبه المُتواضع ، كامام و خطيب بوزارة الأوقاف.
و لو شاء لسكن القصور ، و حصد الملايين ..فقد عرضت عليه احدى الدول الخليجية
(شيكاً على بياض ) ليتولّى التدريس فى احدى جامعاتها ، و الخطابة فى أحد أكبر مساجدها ، بشرط واحد ، هو ألا يتطرّق الى السياسة ، و أن يكفّ عن انتقاداته اللاذعة للرؤساء و الملوك العرب..و لم يتردّد الأسد الهصور لحظة واحدة فى الرفض.
و رفض أيضاً دعوات متكرّرة بالحاح ، لأداء فريضة الحج ، فى ضيافة عدة حكومات..
و صبر الى أن جمع مبلغاً من مدخرات الأسرة ، و قام بأداء الفريضة مثل عامة الناس.
و أرسل اليه الحسن الثانى ملك المغرب السابق ،يعرض عليه القاء دروس فى شهر رمضان بأكبر مساجد المملكة، بالأجر الذى يُحدّده هو ..و رد عليه العالم العظيم :
( الأستاذ لا يسعى الى التلاميذ..فمن أراد العلم فليأت اليه فى مسجدى هنا )!!!
و قد تحوّلت جلستى مع الشيخ الى درس تاريخى بليغ لم و لن أنساه ما حييت،
و نفعنى الله به طوال عُمرى..وجدت نفسى سابحاً فى بحر علم الرجل و ثقافته
الواسعة الموسوعية .. و أغرقنى أيضاً بسيل من النكات و القفشات التى لم أسمعها من قبل ! فقد كان من ظرفاء زمانه ،و لا يملّ جليسه حديثه المُمتع مُطلقاً !!
و أذكر أننى جاريته فقلت قفشة أضحكته ،و لم ينس أن يُصحّح لى النطق ،فى ذات الوقت ،لأنه كان من أساطين اللغة العربية ،فضلاً عن الفقه و التفسير و السيرة و الحديث و التاريخ و السياسة ، وغيرها من العلوم الشرعية و الاجتماعية المتنوّعة.
و كان حاد الذكاء ، حاضر البديهة ،لاذع السُخرية.. و الويل لمن كان يقع فريسة له
من الحُكّام !!و قد شكاه جعفر نميرى الرئيس السودانى الأسبق الى الرئيس السادات،و كان هذا سبباً فى اعتقاله بعدها ، فضلاً عن هجماته الصاروخية على السادات شخصياً ، و من قبله عبد الناصر ،و كل القادة العرب و العجم فى عصره بلا استثناء.
و قد تعرّض للاعتقال قبلها عدة مرّات فى الستينيات،بتُهم صارخة التلفيق ،لأنه كان كفيف البصر ، و بالتالى يستحيل اتهامه بارتكاب أعمال عنف ، أو ارهاب أو كباب !!!!
و فى أوّل مرّة اعتقلوه فيها أخرجوه من السجن ،ليتسلّم جائزة المركز الأول فى امتحان الثانوية العامة الأزهرية على مستوى الجمهورية ،من عبد الناصر فى عيد العلم .و أعمى الله قلب الطاغية ، و طمس على بصيرته ، فلم يأمر باخلاء سبيل الطالب الكفيف العبقرى المحبوس ظُلماً ،و أعادوه الى الزنزانة بعد تسلم الجائزة !!!!
و فى عهد المخلوع مبارك أخرجوه مع باقى المُعتقلين من سجن طُرة ، لكنه بقى مُحدّد الاقامة ، ممنوعاً من الخطابة ،الى أن لقى الله ..و كانت منحة فى ثوب محنة..اذ تفرّغ الشيخ لانجاز تفسير كامل للقرآن الكريم ، فضلاً عن العديد من المؤلفات القيّمة و سيرته الذاتية الحافلة .. و قال لى رحمه الله : لا يهمنى أنهم منعونى من الخطابة ،فمُعظم ما أُريد قوله محفوظ فى مئات الأشرطة و التسجيلات ، و هى مُتداولة بأيدى الناس ، موجودة لمن يريد .. و لم تكن هناك فضائيات و لا انترنت فى عصره ..
و شاء الله تعالى أن ينتشر علم العبد الصالح ، رغم حصار الطواغيت ، فقام أهل الخير من طلبة العلم – بورك فيهم – ببث خطب و دروس الشيخ عبر الانترنت ،
فى مئات المواقع بعد وفاته ، و هى حصيلة علمية و ثقافية اسلامية هائلة ،
تُغنى الطالب عن سنوات كاملات يقضيها فى الجامعات ..و هناك كرامة لهذا الرجل
كنت شاهداً عليها ..فقد خشيت ادارة المجلة التى أعمل بها عاقبة نشر
حديثه معى ، و رفضوا أيضاً نشر مُذكراته على حلقات ، كما فعلوا مع دعاة آخرين ..
و شعرت بحزن عميق ، و استحييت من الشيخ ، رغم أّنّه بفطنته قد فهم الموقف
بدون تفسير منّى،و كان يعلم أنّنى مجرد مُحرّر صغير تحت التمرين لا أملك شيئاً.
لكننى ظفرت منه رحمه الله بدعوات صالحات ، ما أحب أن لى بها الدنيا و ما عليها..
و بعد حوالى 12 سنة فقط شاء قدر الله أن أتولّى رئاسة تحرير جريدة (النور) الاسلامية التى يُصدرها حزب الأحرار ..و تحقّقت رغبتى ، فنشرت حديثاً أجراه أحد الزملاء مع الشيخ كشك على صفحة كاملة،مع (المانشيت)العنوان الرئيسى للجريدة.
كما نشرت مُذكّراته بالجريدة على حلقات ،بالضبط كما تمنيت قبلها ب 12 سنة !!
و كذلك مات هذا العالم العامل ساجداً،و تلك كرامة ظاهرة ، و لا نُزكّى على الله أحداً.
رحم الله شيخنا الجليل كشك..فما أظُنّ أن المنابر قد اعتلاها فى عصره مثله !!!!
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداء
فاظفر بعلم تعش حياً به أبدا *** الناس موتى و أهل العلم أحياء
حمدي شفيق