عماد يعقوب : من ذاكرة قطر نيالا .. ومن الرهد عبرة باقية مع الزمن

[JUSTIFY]الرهد ابو دكنة مدينة تعشق السكون ويسكن الهدوء كل شوارعها وبيوتها.. مدينة تبدو عليها ملامح نعمة غابت, عندما ترى سوقها الكبير بدكاكينها العتيقة وبيوتها الواسعة القديمة تعلم إنها كانت حاضرة في تاريخ المدن السودانية كواحدة من المدن التي يشد إليها الرحال, ويبدو ذلك جلياً في تنوع سحنات سكان المدينة, وقد جار عليها الزمان فأنزوت في عمق التاريخ والنسيان وأصبحت تعيش على ما يجود به القدر كفافاً, وربما كان قطر نيالا واحداً من رحمات القدر عليها, فقد مثل شريان يمد تلك المدينة بشيء من الحياة الاقتصادية.

سماها أهلها أبو دكنة المسكين ما سكنا .. وكأنهم استطلعوا الغيب فرأوها في المستقبل ترزح تحت الغياب والضياع فأرادوا بتسميتهم هذه أن يدفعوا عنها هذا الودار .. فهي أشبه بغانية جار عليها الزمن فأصبحت تعيش على صدى ذكرياتها وتجتر وقع أيامها الخوالي مع طوابير عشاقها من أصحاب المقامات والرتب العالية.

الرهد مدينة ارتبطت في ذاكرتنا الطلابية أيام الدراسة الجامعية برحلات قطر نيالا.. حيث كانت تمثل آخر محطات قطر الركاب القادم من نيالا البحير (المدينة التي قطرها فات وغنايها مات).. والبحير مدينة أخرى انزوت في عمق الجراح واتكأت على جنبتها من الألم, وانضمت إلى ركب المدن السودانية التي غادرت محطات الفرح .

وما أكثرها تلك المدن السودانية التي خبأ بريقها وغطاها النسيان بفعل من جلسوا على كراسي السلطة في الخرطوم .. مدن كانت على مد السمع والبصر تنوم وتصحو على إيقاعات الحياة المفرحة .. ولكن جار عليها أولئك الآتين من متون وحواشي الحسد, فنقموا منها ومن أهلها ومن كل ما هو جميل في هذا الوطن.

في إحدى الرحلات من نيالا وإلى الخرطوم عبر القطر, وفي محطة الوصول مدينة الرهد, والزمن صباحاً باكراً حيث لم تزل المدينة تمسح بقايا من نعاس من وجهها الكسول وتتمطى في خدر لذيذ أشبه بأمرأة باتت في أحضان زوجها ولم تزل تسترجع آخر لحظات نشوتها .. وأشعة الشمس تتسلل رقراقة تلامس في لطف جسد المدينة العاري في صباح خريفي مبلل بشيئاً من الندى.. خطونا مع رفيقي أبو الريش نحو سوق المدينة القريب من محطة القطار نبحث عن ست شاي فيها شيئاً من إشراقة هذا الصباح, نرتشف شاي الصباح ونتلذذ بصباحات المدينة ونتنسم قليلاً من سماحة أهلها ..

وقد تناثرت ستات الشاي هنا وهناك على جنبات السوق, تستقبلك رائحة البن المقلي واللبن المقنن والزلابية الدافئة التي تجعلك تفرز أنزيماتك قبل أن تجلس على تلك البنابر المتناثرة حول المكان .. وبشلاقة أولاد “الاشلاق” كان اختيار صحبي لست شاي أم ريش لم تخطو بعد إلى العشرين لم تزل في عمر الزهور عمر ال… (يداب في ال19 سنة) المعلومة التي جادت بها البنية في الونسة التي امتدت بعيداً في ثنايا الفضفضة .. جلسنا نتلذذ بطعم اللبن المقنن وقد توهط صحن الزلابية بمزاج في التربيزة كأشهى ما يكون .. خطا نحونا شيخاً امتدت به سنوات العمر نحو محطة سقط المتاع وانتهاء الصلاحية, يتكأ على عصاة .. سلم علينا مصبحاً ثم وجه تحاياه إلى ست الشاي مسلماً عليها بأسهما ومشدداً على اسم أبيها كمن يريد أن يذكرها بشيئاً ما ربما معرفته بأبيها أو شيء من هذا القبيل, يحمل الحاج بين سلامه طلباً واضح الملامح, كباية شاي و”فك الريق” .. وتجاهلت ست الشاي طلبه من خلال ردها الفاتر للسلام والتجاهل الواضح لوجوده .. ولم يحتمل الحاج هذا التجاهل والفتور المتعمد, فهو ان مشى الزمن على جسمه بالذبول فإن لسانه لم يزل فتياً وسنين, فأمطرها بكلماتاً أشبه بالشظايا من لساناً حاد لا يُجارى وختم كلامه بقولاً كلسعات برد يناير, قال “بت الفحل والله أبوك كان راجلاً زين لكن النار بتلد الرماد” .. فطأطأت البنية رأسها خجلاً وهي تداري استياءها ..

وربما قالت لنفسها “كان كباية الشاي سلمتني من كل هذا الكلام الموجع ومن شر هذا العجوز السليط اللسان” وألتزمت الصمت التام ولم ترفع رأسها تجاهه حتى غادر وهو يطنطن ببعض الكلمات الغير واضحة قاصداً تكية أخرى عسى أن يحصل مطلبه.. فكما علمنا لاحقاً من ست الشاي فهو يعيش على هذه الحالة ويسترزق من لسانه, فهو لا يجارى في حدة اللسان والكلام المجرح, فالكل يتحاشاه ويتقيه ما أمكن.

وما بين كلام الحاج وحاجته وانكسار البنية وذلتها, نزل علينا الكلام برداً وسلاماً .. ومن ثنايا الحدث استوعبنا الدرس والعبرة وعرفنا معنى المثل القائل ” العاقل من اتعظ بغيره” .. وأن هناك بعض المواقف في هذه الحياة يمكن تدفع فيها الحرج عن نفسك بالكلمة الطيبة أو بالقليل من مالك, حتى لو كانت كباية شاي .. فأدفعوا عن أنفسكم الأذى بالصدقات, وتوقوا شح أنفسكم .

وقد ورد عن فضل الصدقة:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, أن رجلا جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله: “أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن اعتكف في هذا المسجد (يعني مسجد المدينة) شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل” .

عماد يعقوب

[/JUSTIFY]
Exit mobile version