وبعد الفراغ من الإجراءات البيروقراطية العقيمة اصطحبت أسرتي الصغيرة من مدينة بورتسودان للجزيرة وهنالك ألحقت ابنتي الحلوة (مودة) بالصف الخامس وبالصف الثاني واصل ولي العهد ابني (المجتبى) وغادرت للمملكة وكنت في ضيافة الأخ الجميل قاسم بلال شمال جدة (حي بني مالك) وبعد يومين ارتديت الزي القومي كاملاً صوب حي الجامعة شارع السيرة العطرة لقصر الشيخ صالح الصعيري وعند الاستقبال سألت الموظف عن أخي عثمان الذي يعمل بالسنترال وعرفت انه خارجه فأحسن استقبالي وتبارى الجمع الذي حوله في إكرامي. ثم اصطحبني أحدهم الى (المجلس) وهو ديوان كبير المساحة شدني نحوه روعة التصميم المعماري وتخللته بعض الديكورات والنقوش السورية تناغم عناصر اللوحات التشكيلية والنباتية دخلت وألقيت التحية للجلوس وأخذت مكاني بين الحضور وتأملت الوجوه عرباً وأفارقة وآسيويين ودارت فناجين القهوة العربية التي يقدمها بعض العمال الأفارقة والذين يرتدون الزي السعودي وفجأة تحول (المشهد) الى فوضى وهرج قفز بعض الجالسين بالشبابيك وأسرع منهم هروباً بالابواب عند دخول رجل قصير القامة غائر العينين يرتدي الزي السعودي وقف كل من في المجلس عند مقدمه وأنا جالس أراقب المشهد عن كثب وحينما وقف أمام الكرسي الذي يتوسط المجلس اصطف الناس طابوراً للسلام عليه وتقبيله فجلس وجلس الحضور. أحسست وأنا أراقبه من بعيد أن جلوسي استفزه فنظر إليّ في غضب قائلاً : الأخ ضيف؟ فقلت : نعم، فقال : من أين؟ من السودان فقال : تبقى مين عندنا؟ فقلت : أخي عثمان. أنت أخو عثمان، فقلت : نعم. ليش ما تسلم علي؟ فقلت له أنا لا اعرفك. فهمس في أذني من يجاورني وقائلا : هذا الشيخ صالح الصيعري وكيل الأمير محمد بن عبد العزيز الكبير فقمت من مكاني وسلمت عليه وجلست بجواره، فحاول أن يبرر جلوسي قائلا : للحضور الإخوة السوادنة لا يعرفون معنى الوقوف عند دخول شخص كبير، فقلت له : اننا لا نقف لأحد دخل علينا ولكننا نقف له حينما يأتي للسلام علينا وفي ثقافتنا نقف للمعلم وكبير السن ونجلسه مكاننا . فرحب بي رغم إجاباتي الجافة ثم صاح أين البنغالي؟ ومثل أمامه مرتعداً. فقال له : اذهب واختر غرفة للسيد بكري وقم بتجهيزها ثم استطرد أين فهد؟ فمثل بين يديه وأخبره أن يعمل عزومة عشاء غداً على شرف بكري فشكرته معتذراً بأنني بصدد السفر صباحاً لمكة لأداء شعيرة العمرة فقال : أجلها وأخبرته اني اتفقت مع زملائي وسألبي الدعوة عند العودة. وعند العودة بالسكن مع أخ من المناقل يدعى حسن وسعد المصري وعرفت أن الشيخ من أصل يمني مسعود فالقصر يضج بألوان الطيف من الجنسيات المختلفة، به بوفيه يعمل على مدار الأربع وعشرين ساعة وعدني الشيخ بتصحيح وضعي وحينما يعادوني الحنين للوطن والأبناء يعطيني بعضاً من المال لأرسله لأبنائي. كنت كثير التجوال داخل القصر الكبير وتعرفت على كثير من العاملين وبداخل القصر ركن به بناء حديث خاص بكبار الزوار لم ارتده يوماً حدثني البعض كثيراً عن روعته بالداخل ولأني من بورتسودان لم تدهشني مدينة منذ أن فارقتها ولأني مربوط بحبل سري لا ينقطع بهذه المدينة الساحلية التي تنام على أحضان الغيوم والتي أرضعتني الصلابة والمعاني فكان جل وقتي للقراءة. وأكثرت من ترددي على المكتبات فكانوا يعطونني الكتب لقراءتها وإعادتها لهم وكنت يوماً مستغرقاً في قراءة بعض المقالات التي كتبتها للصحافة السعودية.
فاجأني نفر من الإخوة المصريين وقالوا لي : إن ضيفاً كبيراً بجناح القصر الخارجي سألهم إن كان بهذا القصر سوداني فجيئوني به فقلت لهم : ان كان هو يريدني فليأتني هو فقالوا لي هذا الضيف من لبنان ورجل ثري دائما ما يكرم العاملين وفي ذهابك له إكرام للشيخ ودي فرصة. وبعد نصف ساعة شرفني بغرفتي رجل أبيض اللون في العقد الخامس من العمر تبدو عليه آثار النعمة والثراء والوسامة قائلا لي : في أدب جم أخوك (سهيل) من بيروت فاعتذرت له قائلا لقد مكثت في هذا القصر نصف عام لم أرتد هذا الجناح لأني لاعب وسط. فضحك فأمسك بيدي فقال لي : أنت ضيفي وتشاركني سكني حتى تبدد وحشتي فاكتشفت أنه رجل أديب مسكون بحب السودان يحفظ للتجاني يوسف بشير كثيراً من القصائد حدثني عن نزار قباني ومي زيادة وبدر شاكر السياب وغادة السمان وسعاد الصباح ويحفظ عن ظهر قلب انت يا نيل سليل الفراديس. كانت الوجبات تأتينا من فنادق 5 نجوم على نفقته الخاصة وعند عودة الشيخ أقيم على شرفة مأدبة عشاء فاخرة دعا لها كبار القوم وحشد لها جمعاً من الفنانين اليمنيين. وعند دخولي حياني الفنان اليمني عبد الوهاب الكوكباني بلحن (المامبو السوداني) بالسلم الخماسي فشكرته وأبديت إعجابي بأدائه ثم أجريت معه حوارا لصحيفة عكاظ ونشر بعنوان بكري السوداني يحاور الكوكباني وكتبت عند مقدمته أنه أجرى بقصر الشيخ صالح الصيعري بجدة، وصادف أن اطلع عليه الشيخ وهو بالرياض فاشترى أكثر من خمسين نسخة عند عودته لجده قال : لهم جيئوني ببكري حالا فقال لي : تعمل حوارات مع الذين أكفلهم وأنا موجود. فطيبت خاطره ووعدته بإجراء حوار طويل معه، يليق بمكانته فبالرغم من الحياة المترفة والاستهلاكية السهلة لم يطب لي المقام وكنت كثير الحركة والتجوال بالرغم من أني لا أملك حتى الجواز الذي دخلت به والذي أضاعه أحد اقربائي.
وفي دعوة عشاء خاصة جمعت ألوان الطيف من الشخصيات المختلفة بجناح القصر تطرق الحديث عن السودان وكان البعض قد زاره في رحلات عمل فقال لي أحدهم يبدو عليه العز وآثار النعمة لا أدري أسوري أم لبناني، ممكن أتحدث معك عن السودان بكل صراحة ووضوح فقلت له احك، فقال : لي انكم تفتقدون الرفق والرقة في التعامل وانتم تطلبون حديثكم كله أوامر اعطينا ادينا جيب هات مافيش لو سمحت لو امكن حتى صاحب العمل تعامله معاملة الند والشريك.
بعض المفردات تفتقد الروح مثل شنو مالك.. ما عارف.
اخي لو كان عندك حق معي فاطلبه برفق من أين أتيتم بهذه القساوة؟.
فقلت له : أنا قادم من بلاد قارة في وطن ووطن في قارة، نحن شعب متعدد الاعراق والثقافات والالوان واللسان، طقسنا اغلبه مداري طوال العام، تتصدر موائدنا الشطة والفلفل والمحدقات، لا نتعامل بأنصاف الحلول، فينا كثير من القيم التي أتى بها رسول الإنسانية. وأنت قادم من بلاد تسمى (الهلال الخصيب) قامت عليها حضارات متعددة في داخل كل بيت حديقة ونافورة وطقس معتدل وماء نمير ومناظر ساحرة وسواد لحاظ أرتوى من ينابيع السحر كل هذه المعطيات كفيلة ان تفجر فيكم قيم الحب والجمال والمداخل الرقيقة الا أننا الذي في قلوبنا على ألسنتنا. ويوما ً أتتني رسالة من ابني (المجتبى) الذي لم يتجاوز عمره آنذاك الثامنة وبداخلها صور له حتى الحروف كتبها متفرقة وحيناً مضمومة يقول لي : (متى تعود يا ابوي؟).
فحملت أشواقي وعدت بها متلفحاً بالليل والصمت
بكري اسماعيل الطاهر (ابو المجتبى)
صحيفة آخبار اليوم