ارادت لى اقدار الصدف ان اكون ضمن جلسة طيبة جمعت بعض اهل الرأى والفهم من بنى وطنى الحريصين على انصلاح الحال، وقد كان محور حديثهم عن التربية الوطنية المنزوعة من قلوب معظم افراد الشعب السودانى الذى ظل يعانى منذ امد طويل من ضغوط وخلافات أنسته حتى حب الانتماء، ولم يكن ذلك الا لحالة الضجر والشقاء التى تنتح عنها حالة من عدم الراحة والسعادة، وقد نسمع كثيراً من الأحداث المأساوية التى يتسبب فيها بعض الابناء فى أذى جسيم يصل لدرجة القتل لآبائهم وامهاتهم، ولم يكن ذلك الا لعدم التراضى او قبول الابن بما يقدمه له ابواه، كما أن الاحساس الدائم بالقصور يولد ذلك الشعور القبيح!! ظناً منه ان الحرمان او التعاسة هما السبب الرئيس في ذلك !! لذا تنعدم الوطنية تدريجياً عندنا لإحساسنا المتزايد بعدم الرضاء عما يقدمه الوطن للمواطن من سد الجوع وتوفير الأمن والطمأنينة، وقد تحدث فى تلك الجلسة الاخ الدكتور ابو عائشة الاختصاصى البارع المعروف، وقد اعجبت غاية الإعجاب بتلك العبارة التى اطلقها واصفاً جمال السودان وخيراته، فتحدث عن القيم والموروثات واستند فى حديثه بتلك اللمة التى جمعتنا فى تلك الجلسة بضاحية كافورى، وهذا التواصل الذى يندر ما نجده فى شعوب العالم، فالمناسبة التى جمعتنا كانت زواج ابناء احد الإخوة الذين توفاهم الله فى حادث غريب من سنوات طويلة، وبفضل تلك الأم الرائعة الصبورة كان نتاج تربيتها هذا الثمار الطيب، لذا اجتمع هؤلاء من معارف واصدقاء قدامى للمرحوم وفاءً وتقديراً وعرفاناً لروحه الطاهرة، فتلك لعمرى قمة القيم، وقد استحقت «الحاجة آمنه عيسى» هذا التشريف، فهى مثال لعظمة ترسيخ تلك الموروثات فى تربيتها، وطاف بنا الدكتور بحلو حديثه، فحدثنا عن النفيس الغالى من المعادن والذهب والفضى بارض بلادى الغنية، وتحدث حديث العارف عن أراضينا الخصبة وعن الكثير، ألا انه تنهد ألماً وحسرة في ما ينقصنا من روح وطنية صادقة نفتقدها ونحتاج لها. ولعل حديثه عن عدم الاهتمام بالشارع العام كان فيه الصدق، فالحياة التى عاشها بالخارج سنين عديدة جعلته يتطلع لأن يكون مثلهم، فهم يهتمون بكثير من تلك التفاصيل البسيطة التى قد لا تجد ادنى اهتمام عند البعض، وقد تعجب لكونك تسير بأحد الشوارع الداخلية فى المدينة وتراك تلك الفتاة وانت تقود سيارتك وتدلق ما تحمله من مياه او او اوساخ امامك دون مراعاة لاى ضرر ينتج عن ذلك، وكان حديثه عن استخدام المياه بإسراف وعدم اهتمام واستخدام مبالغ فيه، فكيف يكون لنا ان نتحدث عن شح المياه ومصادرها ونحن نستخدم تلك الكميات الكبيرة منها دون حاجة، وقد كانت مفاجأة الجلسة بتعقيب من السيد والى الخرطوم دكتور الخضر الذى امن على انعدام تلك الروح الوطنية، وقد قصَّ علينا تفاصيل ذلك البلاغ الذى ورد اليهم بعد تدشين مشروع القطار السريع، فقد حكى ان بعض الاهالى فى تلك المنطقة الطرفية بالعاصمة قد حصبوا القطار بالحجارة وهشموا واتلفوا جزءاً كبيراً من زجاجه والنوافذ!! تخيلوا معى دولة تقوم بتدشين وتسيير قطار من دم قلب المواطن بعد توقف لسنوات طويلة لراحة المواطن وبأسعار مناسبة.. يقف بعضهم ليهدموا كل ذلك بتصرف لا يمت للوطنية بشيء، وقد استفسرت أحد الموجودين بمعية الوالى عن سبب ذلك التصرف المشين، فكانت منه عدة إفادات ومبررات، والمضحك أن من بين هؤلاء غير راضٍ عن عدم توقف القطار فى تلك المنطقة، كما كانت تفعل السكة حديد فى السابق، فالقطار يتحرك من الخرطوم ولا يقف الا فى محطة شندى حسب ما يراه المشغل من توفير كل احتياجات الرحلة.. أما أن كان بعض المتضررين من أصحاب البصات والحافلات السفرية قد دفع هؤلاء لذلك العمل العدائى فتلك لعمرى معضلة كبرى فى نفس البشر الذين لا يؤمنون بأن الأرزاق بيد الله. وقد وافق السيد الوالى الحاضرين على أننا نحتاج فعلاً لروح وطنية ونهضة تربوية تعيد لنا حب الانتماء، فالسودان كما قال البروف عروس حسناء فائقة الجمال، وينعم بخير وفير وطبيعة جاذبة وسحر خرافي.. فيه يجرى نهر النيل الخالد، وفيه الصمغ العربي ثروة العالم المرتقبة، وفيه تلك الكنوز الربانية التى فتحها الله علينا بالذهب، فقط تحتاج تلك العروس الحسناء لفارس يمتطى جواد الشجاعة والقوة ويعمل بإخلاص وتفانٍ ويرمى أطماع الدنيا الزائلة وراء ظهره.. فارس يغير تلك المفاهيم الراسخة عمن يتولون الهم العام وما عرفوا به من تغول وفساد وشراهة فى «اللمليم ومكاوشة خيرات البلد».. فارس يشرك الآخرين فى الخير الوفير ولا يتغوَّل على حقهم القليل.. فارس يخاف الله فى الأيتام والصغار والمساكين والضعفاء.. فارس يدع النفاق والكذب والرياء.. فارس لا يحابى ولا يجامل ولا يخاف فى الحق لومة لائم.. فارس يعي فوائد الدرس ويستفيد من أخطاء هؤلاء ويبعد عن شبهات فسادهم بالتجرد والوضوح.. فارس يبعد نفسه الطاهرة عن الحقد والحفر والعزة بالإثم.. فارس يرجع لأصله وماضيه ويستصحب كثيراً من الذكريات وإن كانت مؤلمة له ويستغفر الله.. فارس يترك العناد والعباد فى حالهم.. فارس يتذكر أن وعد الله حق ويتدبر آياته الكريمة.. فارس يخلص لله والدين والأرض.. فارس يناصح ويكاشف ولا يساند أصحاب الضلال والوهم.. هذا هو الفارس الذى تريده تلك العروس الحسناء التى نعلم أنها بنت أصل وفصل ذات مال وحسب ونسب الأرض البكر الطاهرة أرض بلادى الحبيبة.. وبالتالى نكون قد أتممنا مراسيم ذلك الفرح بالفارس المناسب الذي يستحقها!! وإن كان حديث البروف أبو عائشة حديث الصدق والهم الوطنى الذى كما ذكر لم يتطلع فيه لمنصب او جاه.. فبحضورى ووجودى ضمن هؤلاء الأفذاذ أمنا على انه يجب ان نحرص على مثل هؤلاء الذين يجعلون الوطن فى حدقات عيونهم.. استفيدوا منهم بالمشورة والرأى والتجارب.. غربلوا من بينهم الفرسان والعرسان لحسناوات السودان ليكون عرساً جماعياً نفرح فيه بالعريس المناسب للموقع المناسب، وبإذن الله ستجدون من بينهم الكثيرين.. ودعوا التقليدية في البنت لود عمها.. فالسودان زاخر بالرجال الأتقياء الأنقياء الأخيار فرسان عروسنا بنت السودان فخر أوطاني.
صحيفة الإنتباهة
بدر الدين عبد المعروف الماحي