(اليوم التالي) تسرد حكاية جديدة من واقع استثماري قديم

[JUSTIFY]كان يا ما كان، ليس في قديم الزمان ولا في سالف العصر والأوان، ولكن في برهة خاطفة من عمر الزمن، قبل أشهر معدودة، كانت هذه الحكاية المثيرة والتي تصلح أن تتصدر بورصة جرائم الاحتيال العالمي، وهي حكاية مدهشة ومغرية لتناسل الاستفهامات، حيث اختلط فيها التساهل بالغفلة والثقة بالدمار، مسرحها الكبير هو السودان، ولو شئنا الدقة فلنتواطأ بالقول أن مسرحها ثلاثة ولايات، الخرطوم، البحر الأحمر والجزيرة، ولربما نضطر في البداية أن نحجم عن ذكر بعض الأسماء والعناوين؛ حتى تكتمل الصورة في الأذهان جراء الوقائع الماثلة والملابسات، نعم الملابسات التي سوف نسردها بالتفاصيل المملة ونضعها بين يدي القارئ عارية تماماً تمهيداً لبسط الحقائق، كل الحقائق، فما الذي جرى بالضبط، ما الذي جرى في كواليس الوطن المحزون والغائرة جراحه وتحت مظلة الاستثمار؟، (اليوم التالي) تفتح الملف على مصراعيه.

حسناً، لنبدأ بتلخيص الفاجعة في خبر قصير.. يقول الخبر الذي لم يكتب بعد؛ (أخيراً وضعت السلطات يدها على أخطر مستثمر أجنبي مزيف، دخل البلاد على غفلة من الناس، اشترى وباع الكثير من الأراضي والبنوك والعقارات والشركات، دون أن يدفع مليماً، فهو في واقع الأمر لا يملك مليماً واحداً ولا يملك سيارة وينام على درج مكتبه، وهو باختصار ليس مستثمراً بالأساس، ولكنه خدع البعض بمهاراته الفائقة في التمثيل فوثقوا به وسلموه كل ما بحوزتهم بعد أن أغراهم بالأموال السراب، وباع لهم (الترام) فكثر ضحاياه.. المستثمر المزيف احتال على حكومات ولايات، وعلى رجال أعمال ونساء وشركات وتركهم يفترشون الأسى، فانتهت تحركاته السينمائية بالقبض عليه بعد مطاردة مرهقة و”13″ بلاغ احتيال من قبل الشركات، فتم فتح بلاغ تحت المادة “167” من القانون الجنائي في مواجهته، بتاريخ “19” مارس الجاري، أي قبل نحو أسبوع، وعريضة بالأرقام التي تحويها الوثائق المضمنة أعلاه من نيابة الخرطوم وسط.

حكاية المستثمر العربي المزيف تشبه حكاية (صقر قريش) و(جمعة الجمعة) ولربما هناك بعض الاختلاف في التفاصيل وحبائل النصب، فهو يستثمر في كل شيء، الزراعة، الصناعة، البترول، الطيران، الطب، ولكنه مع كل ذلك لم يدخل دائرة الاشتباه حتى تنامى خطره، وفاحت رائحة شكوى الناس ومخاوفهم منه، فهو يشتري الشركات الناجحة والخاسرة معاً، يمتص رحيقها فتتفاقم خسائرها، ويستولي على رصيدها سواء أكان في البنوك أو في المخازن أو في محصلة الاسم التجاري.

دلف (محمد فهد راشد النعيمي) بلاد النيلين، بجنسية بلد عربي متدثراً بعباءة رجل الدعوة الذي تشع التقوى من ملامح وجهه، مستغلاً بساطة السودانيين، فهو رجل من مظهره يبدو عليه الورع والترف، يكسو ملامح وجهه شعر أسود ناعم، ولحية كثيفة إلى حد ما، بجانب الأزياء الأنيقة التي يرتديها.. دلف من مطار الخرطوم وهو يحمل جوازاً بالرقم “00611504”، ومن ثم انسلّ إلى الداخل وكون صداقات مع رجال مهمين ابتغاءً للتزكية، أسس في زمن قياسي شركة تحت اسم (الرمزاني للتنمية المحدودة) وهي المالكة والمسجلة للاسم (وكالة للسفر والسياحة وخدمات العمرة) وقد اكتملت الإجراءات في اليوم السابع من شهر نوفمبر للعام “2012”، -أنا هنا أقصد إجراءات التسجيل-.

تقول سيرة الرجل التي قدم بها نفسه، أنه حضر إلى السودان بغرض الاستثمار وذلك استجابة لتوجيهات دولة شقيقة، فقام بعدها بالإجراءات الروتينية، تأجير مبنى في العمارات شارع “5”، المبنى الأنيق مكون من ثلاثة طوابق بموقف سيارات، ولديه إدارة تنفيذية متكاملة لكل شركة ومحاسبين ومراجعين وسكرتيرة ومستشار اقتصادي ومستشار قانوني (سوداني)، إذن هو مستثمر كامل الدسم لا ينقصه سوى أن يكون صادقاً وليس مزيفاً.

حسناً لنعد سرد بعض وقائع شراء الشركات والمواقع، كيف ومتى وبأي طريقة تسنمها؟ وبأي صورة أصبح من أثرى الضيوف الذين هبطوا أرض السودان متنكرين؟ ومن المعلومات الخطيرة والموثقة أن الرجل بعد ذلك تمكن من كثير من الشركات والأراضي والمنشآت التي كانت في حالة انهيار وخسارة. من بينها شركة شهيرة تعمل في مجال البترول بمبلغ واحد وعشرين مليون دولاراً. ومن ثم تقول الوقائع المؤلمة والدرامية أنه لم يدفع أي قسط لأكثر من سنة، مما تسبب في تضرر سوق الوقود بالبلاد.. ثمة واقعة أخرى مشابهة، هي أن المستثمر المزيف اشترى شركة طبية بمبلغ “26” مليار جنيه، وهو مبلغ كبير بالطبع، وهو لا يملك ربعه، لكنه ماطل أيضاً في الدفع، هل قلت دَفَعَ؟! كيف يدفع وهو معدم.!! المهم أن عملية الشراء الأخيرة ترتب عليها تعطيل وإبطاء كافة أعمال الشركة التي انتقلت إلى مالك آخر “هو نفسه”، وبالأخص معاملاتها الخارجية، وتأخير استلام وإدخال أصناف كثيرة من الأدوية.

هنالك واقعة أخرى نبسطها بدون تفاصيل وهي أن الرجل اشترى شركة شهيرة لأنظمة المعلومات بمبلغ “2” مليار جنيه، وبعد ثلاثة أشهر استرجع الملاك شركتهم بمجهود خرافي قبل أن تقع (الفأس في الرأس) ونتيجة استدراك متأخر وفي الزمن بدل الضائع، حينما ثبت لهم أنه ليس مستثمراً وأنه مرواغ.

حسناً لنمضي قدماً في تكييف الوقائع والقفز على جراح الفوضى والألم، لننظر ماذا جرى بعد ذلك، من واقع البلاغات الكثيرة التي وردت إلى السلطات وسهام الاشتباه التي صوبت نحوه، بدأ الكثيرون يتجنبونه، ويفرون من عمائله، حتى إدارة المسجد الدعوي والتي أشهر سمعتهم الطيبة في حركته، مستغلاً ثقة الناس فيها، الواقع أنهم نبذوه وأصدورا بياناً وصفوه فيه أنه محتال ولا علاقة لهم به بالمرة.

ثمة سؤال يفرض نفسه بإلحاح وهو كيف ينصب الرجل شراكه ويحتال على ضحايا من مختلف الفئات؟ أول بيت القصيد أنه يستخدم سلاحاً ذكياً جداً، وهو تنفيذ صفقاته عن طريق صيغة عقد بموجبه يستولي على أسهم الشركات المستهدفة، كما أنه بالأساس يعتمد على جاذبية فكرة المستثمر الأجنبي، ومن ثم يتوفر على قدرات مهولة في الإقناع والتأثير واستخدام ما تيسر من الدين، بجانب هيئته النضيدة ولحيته المشذبة، هذا بالنسبة للانطباع الأول، رجل ورع يجيد استمالة جلاسه، وتالياً فهو بارع أيضاً ويعتمد على القانون وثغراته، يسوق ضحاياه شيئاً فشيئاً في عمليات البيع حتى يغمرهم بالكامل إحساس أنه مستثمر عربي ويملك مئات الملايين من الدولارات ومعه شركاء في الخارج ولكنهم – شركاءه- لا يوفرون له الأموال قبل أن يسجل الشركة تحت سطوة اسمه التجاري، وعندما يقوم بهذا الخطوة تصبح الشركة بشكل تلقائي ضمن أملاكه ويستطيع التصرف في الأصول وبيع المخزون متى شاء، وحتى تنطلي عليهم الخديعة من بوابة الإغراء يدفع سعراً أكبر من السعر الحقيقي، فإذا كان سعر الشركة مليار جنيه فهو يدفع ملياراً ونصف على سنتين وبمعدل قسط كل ثلاثة شهر، هذه الأقساط توفر له متسعاً من الزمن ليحفر بأظافره مسارات الهروب من الاستحقاق المأمول، ومن ثم يتركك وأنت تدندن ببيت الشعر العربي الشهير (أنا الغني وأموالي المواعيد)، ومن هنا يبدأ مسلسل المماطلة والرجاءات، أين ذهبت الأموال، أين ذهبت الأصول والشركات؟ فينتهي الصوت إلى محض صدى ( خلاص اتلاشت الأحلام)، سيما وأن القانون السوداني يقول وبشكل حرفي (العقد شريعة المتعاقدين) والرجل فيما يبدو مدرك لمعنى هذه العبارة، مدرك لها تماماً.

فصل آخر من الحكاية وقبل أن تضع السلطات يدها على الرجل الخطير، تقول الوقائع الماثلة أن المستثمر المزيف جريئ ولا يبالي، وهو يسافر من داخل صالة المطار دونما رهبة، وربما من صالة كبار الزوار، ويدخل السودان والخرطوم مشرعة أحضانها له، لكن السلطات وبعد أن تاكثرت البلاغات حتى بلغت زهاء العشرة أو تزيد، وفي أكثر من قسم على مستوى المحليات والولايات، تم تجميعها كلها في قسم واحد وفي ولاية واحدة، أخيراً صدر القرار، بعد أن رفعت النيابة الأمر إلى رئيس النيابة العامة ورفعه هو إلى المدعي العام، الذي رفعه بدوره إلى وزير العدل أعلى سلطة قضائية، استغرقت هذه المسألة زهاء الـ”5″ أيام وبعد أن اضطلع الوزير على ملف القضية أصدر أمر بإلقاء القبض على المستثمر العربي المزيف، فتم حظره من السفر ابتداءً ومخاطبة كل النيابات للتأكد من أن لديه بلاغات مشابهة، وتم تجميعها في نيابة واحدة وصدرت نشرة واحدة بالخصوص وتمت مخاطبة بنك السودان لمعرفة حساباته، وأخيراً ألقي القبض عليه وأودع إحدى حراسات الدرجة الأولى.

حسناً لم تنته الحكاية، فلازالت هنالك تفاصيل مثيرة نبتدر سردها من الأول في الحلقات المقبلة ونحاول أن نجيب فيها على الأسئلة الخطرة، ما هي الصفة التي ولج بها هذا المستثمر العربي المزيف السودان؟ وكيف تمكن من استخراج شهادة تسجيل اسم عمل لشركاته من إدارة التسجيلات التجارية؟ وكيف نجح في الوصول إلى بعض الممتلكات العامة؟ وهل تمت مراقبته ورصد تحركته الغامضة؟، ومن ثم أين الجهات المعنية بضبط حركة المستثمرين الأجانب؟، ومن هم ضحاياه، وكيف تمكن من إقناعهم فمنحوه أعز ما يملكون؟، الأسئلة عمياء، تظل كذلك وهي تشعل العتمات والعقول بالعصف والضجيج، وحدها الأجوبة التي ترى، فماذا عن الأجوبة وأصل الحكاية؟.

نواصل
صحيفة اليوم التالي

[/JUSTIFY]
Exit mobile version