مرة أخرى يعود عيسى الحلو إلى داره لكنه في هذه المرة مُحمّلاً بـ(علب) سجائر وافرة يسد بها رمق خرمته.
حكاية السجارة الأولى مع القاص والكاتب الأستاذ عيسى الحلو جاءت مشحونة بحبكة قصصية, فالرجل لم يفارق شغفه بملء المساحات البيضاء ومع(حكايات) كان له هذا النص
حرية النفس الأول وسجن الأنفاس التالية
يحكي الحلو في تلك المقابلة التي أجريتها معه قبل أكثر من ثلاث سنوات قائلاً: السيجارة الأولى عبارة عن حكايات سمعناها من الآخرين وكانت تصور قدرة هذا الوهم الأزرق على أن يشكل عوالم مسحورة وساحرة، فيها يستطيع الإنسان أن يخفف من الأثقال التي تشده إلى أسفل وتجعله خفيفاً ليطير في سماوات من الحرية اللذيذة التي تبدأ بـ(النفس الأول)، وتنتهي بنهاية السيجارة، كل هذا يجيئ عندما يحاول (الصبي) اختبار عالم الرجولة، فهو يريد أن ينعتق من طفولته، ويصل إلى ذلك العالم الواسع والمدهش بلا حدود.
من الذي ناول الحلو السيجارة الأولى؟ أجاب بـ(شقاوة) طفل صغير: تناولها وحده، لأنه كان يريد أن يسافر عبر هذه العوالم، وبعد مضي خمسة وأربعين عاما اكتشف أن لا شيء حدث، وأن هذه المراكب الفضائية لا تقلع أبداً، ويظل المدخن يكتشف هذه السخرية العظيمة في أنه لا يبرح مكانه أبداً، بل يجد أنه قد كبل نفسه بقيود عادة التدخين التي تصل حد الإدمان وتصبح كل سيجارة بعد هذا، كـ(حراسة) داخل سجن الإدمان، وأن الجسد يتداعى ويتهدّم؛ ضيق في الشرايين، التهابات في الرئة، وأمراض كثيرة يسببها التدخين.
خيوط دخان مسافرة
الرواية عند القاص عيسى الحلو تأتي مشحونة برائحة التبغ، ولعله يتعلق بخيوط الدخان المسافرة في البعيد ليقتنص فكرة أو يستدعي نهاية، يحكي: كنت أدخن خمسة علب سجائر في اليوم الواحد، والأخطر من هذا كانت كل قدراتي في التخيل وترتيب الأفكار، ووضع قانونها المنطقي البسيط والبديهي، كان كل هذا يغيب عندما أكف عن التدخين، وما يُسمى بـ(الخَرَمَ) هو فراغ روحي وعقلي شاسع، يجعل الإنسان غير قادر على فعل شيء، وتحت هذا الإدمان (مع كلمة إدمان دي، أوعى القراء يفتكروني بدخن بنقو) كنت أصحو فجراً في انتظار أن يفتح (الدكان) أبوابه لأشتري علبة سجائر، وكانت المدة تطول جداً لأنني غالباً ما أصحو في السادسة، نصحني صاحب الدكان أن أشتري حصتي الصباحية في وقت مبكر من الليل، فاستجبت لهذه النصيحة، ولكنني كنت أحرق كل هذه الكمية ليلاً قبل أن يأتي الصباح.
كنت لا أستطيع أن أكتب دون أن تكون أمامي كمية وافرة من السجائر، ولا أكتب حرفاً دون أن أشعل سيجارة.
مقالب المدخنين
أصدقاء كثر مهددون بنفاذ ما يحملونه من مخزون السجائر حالما وطئت أقدامهم دار عيسى الحلو. و يحكي بعذوبة: قصتي مع السجائر أقرب إلى المقالب منها إلى الطرائف، غالباً ما كنت أدخن سجائر الشخص الذي يزورني، أشاركه سجائره، وربما أدخن أكثر منه، مما كان يجعل بعض هؤلاء يستغربون لـ(قلة الحياء) هذه. وأضاف: من أصدقائي الذين كنت أعذبهم الأستاذ كمال الجزولي، عبد القدوس الخاتم، والصحفيان إدريس حسن وأحمد يونس. كانوا يتضايقون مني مع أنني كنت أقدم لهم خدمة جليلة، وأقلل من نسبة وكمية تدخينهم.
تشييع التدخين
الفصول الأخيرة لرواية (التدخين) في حياة الكاتب عيسى الحلو، انتهت بالخوف من سياط المرض، عن تشييعه لآخر سيجارة يقول: عندما داهمني المرض وذهبت إلى الطبيب قال لي: يجب أن تكف عن التدخين وكنت حينها قد توقفت لثلاثة أشهر، ولكنني خضت تجربة رهيبة في الإقلاع عن التدخين إذ كنت زهاء الأشهر الثلاثة أصاب بـ(خرم) يصل حد الإغماءة وعانيت معاناة كبيرة في أن ألجم نفسي وأفلحت عندما استطعت أن أقترح سؤالاً منطقياً كنت أسأله لنفسي كل ما أشتدت حالتي في النزوع إلى تدخين سيجارة. كنت أقول: ماذا يعني أني (خرمان) وماهي العمليات الفيزيائية والكيميائية التي تحدث داخل جسدي لتسبب هذه الحالة؟
كنت أحاول أن (أعقلن) المسألة وأن أحول حالتي النفسية الذاتية جداً إلى حالة موضوعية، بعبارة أخرى كنت أجعل من نفسي شخصاً آخر أخضعه للتحليل النفسي، فهذا(المريض) الذي لا يستطيع أن يتوازن ما بين الخيال والواقع يجد نفسه مضطراً عندما أضعه في هذه الحالة لأن يتوازن ليخرج نفسه من هذا المأزق وبهذه الطريقة أصبحت حالة ما يُسمى بالخرم حالة بلا معنى وفقدت قدرتها على فعل التوتر وعلى فعل الألم، لأن الألم هو الحالة النفسية التي تبحث عن الإشباع فإذا نفينا أن هناك ألم فهذا يعني أننا نفينا أن تكون هناك حاجة للإشباع، بهذه الطريقة استطعت أن أداوي نفسي وأنا الآن متوقف عن التدخين لمدة أربع سنوات وثمانية أشهر لم يعتريني فيها يوم واحد من التوتر والاشتياق إلى التدخين وهذه طريقة أهديها لكل اللذين لم يستطيعوا التخلص من السجائر.
من أصعب المواقف أنني لم أكتب لمدة ثلاثة أشهر بسبب التوقف عن التدخين، ومن الطريف أن أي زول استغرب لما خليت السجائر لأنو مافي زول شافني من غير ما تكون السجارة مصاحباني وصعب زول يتخيلني من غير ما أمسك سيجارة.
صحيفة اليوم التالي
[/JUSTIFY]