د. محمد بدوي مصطفى: تجليات: “هل تاريخنا مزوّر؟”

سعدت قبل يومين بنعمة اصطفتني كان مذاقها في قلبي كالشهد على اللسان وهي تندر يا صحابي في زماننا هذا؛ أن أرسل إليّ أحد أصدقائي الكرام من الدوحة كتابه الأخير. أدهشني العمل بكل صدق وأمانه عندما سلمني إياه ساعي البريد ببذلة صفراء فاقع لونها وكلاهما (الكتاب وزي ساعي البريد) يسرا الناظرين وسعي هذا الأخير يثلج القلب إن كان رسول خير يحمل من البشائر ما تتفتح له الأسارير و”كان كذلك” (كما في توراة العهد القديم). لقد كانت دهشتي عظيمة كما أسلفت، أولا بإهداء الكتاب البديع، وثانيا بمادته الرصينة، إذ أن صديقي الكاتب يسطر فيه أحداث التاريخ من وجهة نظر الباحث الثاقب، المتوقد النظر، الجليّ الحواس، الصادق السريرة، ذو الهمة الفائقة وليس من وجهة من يؤمن في قرارة نفسه أنه يعلم وهو بعيد من العلم بعد السماء عن الأرض. أو كتابع مستلب يدعي أنه يجتهد في تقديم خدمة تأريخيّة لسلطان ما أو لملك أيا كان، يعيش من نعمته ويربض بين رجليه كالكلب المسوم ينبح بإشارة منه مسعورا مذعورا. على كل حال تجولت بين صفحات هذا المرجع العصامي بلونه الأزرق زرقة مياه البحر الأحمر وأدركت حينئذ أن التاريخ الذي درسناه وشربناه “شاي وموية” والذي دونته تلكم الأقلام الحائرة والحادبة على مصالح السلطان ليس هو ذاك التاريخ الذي حدث بالفعل. نعم، هذا تاريخهم هم، في سرياليته العمياء وبأحداثه الواهمة وليس تاريخنا نحن! إذا يا صحابي فالتاريخ المعروف لدينا في الصحف والإعلام وأحداثه التي سطرتها تلك اليراعات المنكسرة انكسار الهمم ليس بالضرورة واقعيّ وليس فيه من الصدق من شيء، ولا ينبغي أن نبني عليه مجد أمتنا وهيبتها وشموخها وكبريائها وعظمتها التي غدت صفحات تاريخها مدنسة شعثاء غبراء تنتظر الخلاص ومهديا منتظر. على كل فإن يراع الأستاذ الذي ذكرته آنفا مختلف عن تلك التي سيّرت تاريخ بلادنا على هواها لأنه يتصدى وبكل جرأة علمية وأفق موسوعي للقضية التي تجعلنا نتساءل: هل تاريخنا مزوّر؟ وهل ينبغي تصحيح المسار ها هنا؟ نعلم يا سادتي أنه منذ الاستقلال وإلى الآن قد مرّت ستة عقود ونيف ونحن ما زلنا نجهل تاريخنا؟ الجمهورية الأولى وجمهورية ثانية وما أدراك ما الجمهوريات؛ الحكم الإنجليزي المصري والنضال ضده، تجديد الفكر وما جرى لبعض منهم وإلى أين انتهوا، وهل ما قيل في شأنهم قول صدق أم أضغاث أحلام وهراء؟ إذا السؤال الذي يطرح نفسه بلا محالة: هل تاريخنا مزور؟
ذكرتني هذه الوقفة الجريئة مع كتاب صديقي بمقال لزميلتي السورية سمر المصطفى التي أكن لها ولقلمها كل الاحترام. إذ طرحت الكاتبة سمر عدة تساؤلات في خضم محاولاتها لفهم حقيقة وكنه كلمة التاريخ، وما إذا كان مزورا، واسترسلت تقص حكايتها مع هذه التساؤلات قائلة: “لعل هذا السؤال يثير في نفس القارئ مشاعر الاستغراب والخوف والعصبية، الاستغراب من أن يتجرأ أحد ما أو “يتواقح” إذا صح التعبير على طرح مثل هذا السؤال المصيري الهام، والخوف يأتي من الشك ولو للحظة واحدة بأن الإجابة قد تكون بالإيجاب، أما الشعور بالعصبية فهو ينبع من “تحزبنا” وانحيازنا الدائم لتاريخنا وأمتنا ووجودنا “المستهدف” من قبل الأعداء أو كل ما يمكن أن نطلق عليه لقب الآخر.”
لقد استحكم في نفسي هذا التساؤل الجدير بالإمعان فقرأت في طيات حديثها الصريح المقولة الآتية: “التاريخ يكتبه المنتصرون”. حينها حلقت بخاطري كل الدروس، سواء علمية أو وطنية، التي درشناها عن ظهر قلب وقضمناها أيما قضم كالبلح البركاوي العصيّ حتى تلين. وحتى تلك اللحظة يا صحابي كانت صفحات التاريخ بالنسبة لشخصي المتواضع من الأسفار القدسية ذات جلال وسمو مسلم بهما. أكاد أقول كنت أؤمن إذذاك أنها مؤلهة (صفة الالوهية) لا تنطق عن الهوى، لكنني تعلمت بعد ذلك أن المعرفة هي أم الحكمة ومنبع النور الذي يشع في أرجاء القلوب المستكينة. ما يحدث الآن يا أخوتي من خفقات ووثبات ونقلات وشطحات في حق الأمة وفي تاريخها جعلني أحزن ثم أغضب ثم أجزم أن الروايات التاريخية قابلة للطعن والدحض والتشكيك والتمحيص والتفنيد والتجريد في كل صغيرة أو كبيرة تحملها في جعبتها، فقد أثبت لي كمثال ولا كل الأمثلة – كتاب صديقي الأستاذ عبدالله الفكي البشير “محمود محمد طه والمثقفون قراءة في المواقف وتزوير التاريخ” أن ليس كل ما يحكيه أهل السلطان مسلّم به بالضرورة وهذه الوثيقة التاريخية الصادقة التي سطرها الأستاذ عبدالله الفكي في أكثر من ألف ومئتي صفحة تفضح مدونات التاريخ السريالي وتلك الروايات السلطانوية وتجردها من المعصومية وتحملها الذنب في كل ما تكبده واغترفه أهل السودان من خسائر معنوية وجسدية بالغة وباهظة على حد سواء وذلك للأسف طيلة الحقب المنصرمة. فلندعهم يكتبون تاريخا يشرفهم لتبيض وجوههم وتسود وجوهنا وليتباهوا به بين العالمين وألا نفرّط قيراطا واحدا في أن ندرسه، نحن وصغارنا، حق دراسته دهرا تلو الآخر في دور العلم وبالمؤسسات الأكاديمية حتى تثبت شرعيته ومن خلاله تتبدى لناظريّ الفرد منا عظمة الأمجاد خط تحت عظمة – التي صنعتها أيديهم حسن صنيع وحدث ولا حرج.
لا يسعني في نهاية هذا المقال إلا أن أبدي حزني وجرح نفسي الغائر تجاه كل ضحايا التاريخ منذ الاستقلال، أولئك الذين قُتلوا وشُنقوا وسُجنوا وأُعدموا ونُفيوا وشُردوا ونُكّل بهم بعد أن أُلبسوا أثواب التهم وعمامات التلفيق بألوان الطيف المتباينة من أجل تجريمهم وتبرير ما تعرضوا له من أعمال عنف لأنهم قالوا قولة قالها في العصور الوسطى من قبلهم الحلاج: “أنا الحق” والحق في أنفسنا – أفي أنفسكم أفلا تبصرون؟
يشهد تاريخ السودان المديد بشهود عيان زُوّرت شهاداتهم وحُرّفت مسيراتهم النيرة ظلما وبهتانا مبينا. أتقدم بكل الاحترام والتبجيل لأولئك الذين لم يبيعوا حريتهم وشرفهم ودم الوطن بأبخس الأثمان كصحف مفترشة بقارعة الطريق نفذت صلاحيتها قبل حول وخريف؛ وأعقب بكل التبجيل الوافر لأولئك الذين لم يتاجروا بتاريخ أمتنا من أجل الدوام على الكراسي فالدوام أوله وآخره لله فهو الواحد القهار.

بقلم: د. محمد بدوي مصطفى
[email]Mohamed@Badawi.de[/email]

Exit mobile version