جالت بخاطرتي هذه التساؤلات التي دائماً ما تطرح عن علاقة الطب بالشعر أو العكس، وأنا أستقرئ رواية طبية للكاتب “ديڤيد نطحان” تحت عنوان (الجينات والدم والشجاعة)، والمؤلف أستاذ لطب الأطفال بمعهد هارڤرد الطبي، وليس مؤلفاً علمياً مثل “دوكرويف”، بل يمارس الطب ويقوم شخصياً بالتحقيقات، حيث قضى “نطحان” ثلاثين سنة في معالجة شاب يدعى “ضايم سيف”. وقد تعرف “نطحان” على “سيف” عندما كان هذا الأخير في السادسة من عمره، وكان “سيف” يعاني من مرض عضال يسببه الدم وهو مرض (الثلاسيميا)، وهو مرض وراثي وشائع في دول البحر الأبيض المتوسط وبعض مناطق إفريقيا وآسيا. وينتج هذا الداء عن فشل جينات خضاب الدم (الهيموغلوبين) الثنائية في نقل الأوكسجين إلى النُسُج، ويحاول جسم المريض بكل قوة إنتاج النُسُج التي يحتاجها، فيحدث بذلك توسع في فضاءات نخاع العظام، مما يجعل الهيكل العظمي هشاً كالبلور ويسبب للجسم تشوهات سيئة للغاية ويؤدي في كثير من الأحيان إلى الموت. تناولت الرواية قصة تحقيقاته المتعلقة بأسس الجينات الوراثية المسببة لمرض (الثلاسيميا) ولأمراض أخرى تتعلق بالدم كسرطان الدم. تلك التحقيقات كان الهدف منها اكتشاف طريقة للحفاظ على حياة “سيف” لمدة تكفي لإيجاد وتطوير علاج دائم لهذا المرض العضال. كما أعطت الرواية درساً قصيراً لكنه مفيد عن الأمراض الوراثية والجينات والهندسة الجينية، وقدمت شرحاً لمختلف الظواهر والعمليات من اصطناع مركب البروتين إلى دور التحويل المضاد لعدوى الفيروسات. ورغماً عن اللغة التقنية وعن كونها حكاية غير بوليسية إلا أنها قصة ممتعة ومثيرة تشد اهتمام القارئ لأنها حملت قصة واقعية إنسانية.
إن أي قارئ سبق له قراءة قصة المؤلف “دوكرويف” (صيادي الجراثيم) أو شاهد فيلماً مثل (Outbreak) سيعرف حقاً مدى الإثارة التي يجدها المرء في قصص وروايات التحقيقات الطبية. ويبدو أن هذا النوع من القصص بدأ يجد مكانته بين القراء، كما يجد اهتماماً من طرف المؤلفين لشرح تجاربهم وأبحاثهم على شكل قصة مثيرة. وإذا كان لقصص التحقيقات البوليسية التقليدية جمهورها العريض وهو ما جعل صحيفة كـ(الدار) في السودان على سبيل المثال تكسب شعبية كبرى كمثيلاتها في القاهرة وغيرها، فإن هناك نوعاً ثانياً من القصص يهتم هو الآخر بالتحقيقات على الطريقة البوليسية، بل ويعدّها البعض، نظراً للطريقة التي يتطرق بها الكاتب للموضوع، أكثر تشويقاً من الروايات البوليسية التقليدية، لسبب بسيط هو أنها قصص حقيقية، تتضمن هي الأخرى أخطاراً خفية تهدد وتقتل العديد من الأشخاص، وهذه الأخطار هي الڤيروسات والأمراض الوراثية والجراثيم.. إلى آخره.
تساءل كاتب في جريدة “المغرب اليوم” وهو يتناول رواية الطبيب الكاتب “ديڤيد نطحان” عن وجود قصص أو روايات طبية لدى العرب. ويعتقد الكاتب، وأنا أشاركه الرأي، أن الإجابة حسب علمنا، لا.. لعلي أتساءل أيضاً وأنا أستعرض العلاقة بين الطب والشعر، وهي ليست علاقة سودانية صرفة فيما يبدو، فهناك أمثلة عديدة لكثير من الشعراء الأطباء في الوطن العربي وخارجه، أتساءل أين هو الإبداع الكتابي الآخر لدى الأطباء وبالتحديد في مجال الرواية؟ وكما تساءل الكاتب بجريدة (المغرب اليوم) عن متى يبدأ الأطباء العرب في فتح مخيلتهم وتأليف قصص وروايات عن الحالات المرضية التي يواجهونها يومياً لإثراء الساحة الأدبية بهذا الجنس الأدبي المهم، فأنا أطرح هذا التساؤل لأطبائنا المبدعين في السودان خاصة القريبين من هذه الأحداث بحكم تخصصهم مثل الشاعر الصديق د. “علي كوباني”، الذى جمعتني به أجمل الأوقات ونحن ندرس الطب بجامعة الخرطوم وكان في ذلك الوقت يستلهم موهبة الشعر ويتساءل بدهشة طيبة عن كيف نكتب الشعر؟! تماماً كما كنت أفعل قبل أن أكتبه، حتى أتته موهبة كتابة الشعر بعد أن تخرج في الكلية، وقد ولدت مكتملة وناضجة تحمل كل صفات “كوباني” الرائعة.
بالرغم من أن رواية (الجينات والدم والشجاعة) ينقصها الحس الأدبي الذي بلا شك يمتلكه د. “علي كوباني”، إلا أنها مع ذلك قصة ممتعة، وهي حكاية بسيطة عن العلم الحديث لكنها مثيرة للمشاعر، بالإضافة إلى ما تحمله من مغزى وعبر معقدة. لذلك أنا أقترح لصديقي د. “علي كوباني” بحكم موهبته وتخصصه أن يقتحم هذا المجال بلا تردد وستولد به يا “علي” عبقرياً وجميلاً، لأنك (كلك حلو).
{ مدخل للخروج:
لم يكن إلا لقاءً وافترقنا. كالفراشات على نار الهوى، جئنا إليها واحترقنا. كان طيفاً وخيالاً ورؤى، ثم ودعنا الأماني وأفقنا.
معز البحرين
عكس الريح
[email]moizbakhiet@yahoo.com[/email][/SIZE]