سويسرا من اصغر بلدان العالم، ولكن اقتصادها أقوى من اقتصاد اغني تسع دول عربية مجتمعة، وهي تنعم باستقرار سياسي نادر المثال، رغم ان سكانها خليط من عدة أجناس أوربية، وما يميز سويسرا عن سائر بلدان العالم انه لا توجد بها قوات مسلحة… يعني جيش مفيش.. ليست عندها مدرعات او قوات جوية او بحرية او مشاة، او وجع رأس، وبالتالي لم تعرف أو تشهد محاولات انقلابية، ورغم هذا – وربما بسبب هذا- فإن الحرس البابوي في الفاتيكان كله من السويسريين، لأن البابا حريص على إحاطة نفسه بعساكر أي كلام (أي مسالمين) وأستعيد هنا واقعة مثول شرطي سويسري أمام القضاء متهما بجريمة نكراء، اهتمت بها الصحف طوال عدة أسابيع، فقد تلقت القيادات الأمنية بلاغا بأنه يقوم بنشاط مخالف للقانون، وضبطته متلبسا بالجرم المشهود في احد المقاهي: كان الشرطي المجرم يشرب القهوة، عندما اعتقلته مجموعة من زملائه وحملوه إلى المخفر ومعه دليل إدانته أي كوب القهوة الذي كان يشربه، ولم يكن من سبيل أمام الشرطي المجرم سوى الاعتراف أمام المحققين والقاضي: نعم «زوغت» من الشغل لنصف ساعة لأشرب كوب قهوة، تخيلوا هذا الرجل عديم الضمير يتغيب عن العمل ثلاثين دقيقة كاملة لشرب القهوة، وتقول صحيفة اندبندنت اون صنداي ان القاضي حكم على الشرطي بالسجن شهرا مع الطرد من الخدمة!! عدت بذاكرتي بضع سنوات إلى الوراء، عندما حددت موعدا لزواجي، وكنت وقتها اعمل في التلفزيون السوداني وأعد برنامجا أسبوعيا لتعليم اللغة الانجليزية، وقدرت انني بحاجة إلى إجازة لا تقل عن شهر ونصف الشهر، وهكذا قمت بتسجيل ست حلقات من البرنامج، وخرجت ولم أعد،… يعني اختفيت من التلفزيون طوال 45 يوما من دون أخذ إذن بالإجازة، وتزوجت، ثم «مليت» الحياة الزوجية بعد شهر، وعدت إلى التلفزيون وكانت لدي حلقتان جاهزتان لأسبوعين قادمين، وقمت بتسجيل حلقتين أخريين، وخرجت بنية التغيب لشهر كامل، وخلال ذلك الشهر جلست لامتحان ترجمة في مكتب التوظيف التابع لشركة أرامكو السعودية، واجتزت الامتحان، وابلغوني انه يتعين علي ان اكون في الظهران خلال أسبوعين، فعدت إلى التلفزيون وسجلت نحو خمس حلقات جديدة من برنامجي وخرجت ولم اعد حتى الآن، وكان ذلك قبل نحو 33 سنة، وحز في نفسي أنه ما من أحد افتقدني، أو أحس بغيابي، حيث انني لم اتلق لا «لفت نظر»، ولا إنذارا بالفصل من الخدمة، وبعد ستة اشهر قضيتها في خدمة ارامكو عدت لأكتشف انني نلت ترقية، وأن حكومة السودان تحول راتبي شهريا إلى البنك،.. كنت في الأصل منتدبا للتلفزيون من وزارة التربية ودخت وأنا أطوف مكاتب الوزارة كي يوقفوا مرتبي، وكتبت عدة استقالات بأثر رجعي، ولكن بلا طائل.. وانتهت اجازتي وعدت إلى شركة ارامكو، وبعدها بنحو ثلاثة أشهر، اي بعد تركي العمل في التلفزيون بتسعة اشهر تولى جعفر نميري الذي كان رئيسا للجمهورية مسؤولية وزارة التربية بالوكالة، ووضع فاعل خير أمامه قائمة بأسماء الموظفين غير الموالين لـ«الثورة» وكان اسمي من بينهم، فتم فصلي من الخدمة وتسلمت وثيقة تحمل توقيع نميري بذلك وتنص على حرماني من مكافأة نهاية الخدمة ولم تكن تعادل راتب شهر واحد،.. ومعنى هذا ان لحكومة السودان في ذمتي راتب ثمانية أشهر، وقيمتها بالسعر الحالي لصرف الجنيه السوداني أقل من واحد على مائة من الدولار!! والحمد لله انني لم أكن موظفا في سويسرا!
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]