وقد عرفت المجتمعات السودانية – التقليدية والحديثة – حوادث اعتداء على المرأة بأشكال وطرق مختلفة.. ويتخوف الحادبون من أن يتحول الأمر إلى (ظاهرة) تتمدد وتهدد المجتمع.. مما دفع المهتمين والباحثين إلى إخضاع هذا العنف لنقاش وتحليل عميق، سعياً وراء حلول ومعالجات.
(المجهر) وضعت القضيّة – التي تشهد العديد من المحاضر الشرطية بوجودها – على طاولة بعض الناشطين والمختصين، وخرجت بالحصيلة التالية:
} أزمة قوة!!
الإمام “الصادق المهدي” تناول في سياق حديثه لـ (المجهر) عوامل تقود إلى العنف ضد المرأة، منها طبيعة الرجل البدنية العالية، التي تتفوق على قوة المرأة، لذا عندما تحدث الخلافات الزوجية يلجأ الزوج إلى العنف.. ولا يثنيه عن ذلك سوى الرادع الأخلاقي، واستطرد: (كما أن الفهم الخاطئ للدين يجعل العديد من الرجال يعتقدون أن العنف ضد المرأة مشروع).
وأضاف “المهدي”: إن مقاصد الشريعة تهدف من الزواج بين الرجل والمرأة، أن تبنى علاقة قائمة على المودة والرحمة، يقول تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا…).. وهناك كثيرون تحدثوا عن ضوابط لمسألة الضرب، وفي اعتقادي – (والحديث لا يزال للإمام) – أن آيات القرآن فيها محكم ومتشابه، وهي أنسب آلية للتحكيم بعيداً عن آلية الضرب.. لذلك نقول إن القرآن يحثنا دائماً ألا نفهم آياته دون تدبر: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).. والشاهد أن العديد من المفسرين والكتاب والمعلقين يفهمون الدين بمعنى دونية المرأة.. ومنهم “الرازي” عندما فسر (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) بمعنى خلق للرجال، وهذا فهم غير صحيح، لأن الآيات واضحة في: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا). وهذا يؤكد أن (الناس) ليسوا مخلوقين من الرجال، والاثنان – الذكر والأنثى – خلقا من نفس واحدة، لذلك فالفهم الذي يعدّ المرأة مخلوقة فقط لمصلحة الرجل، هو فهم خطأ.
} كيد الرجال!!
ومضى “المهدي” بقوله: (الرسول “صلى الله عليه وسلم” في بعض المواقف كان يستشير المرأة، خاصة زوجته السيدة خديجة)، مشيراً إلى أن هناك أحاديث عديدة يقال إنها غير صحيحة، كقولهم إن الرسول قال (إن المرأة خلقت من ضلع أعوج إذا أردت تقويمه ينكسر)، بينما القرآن يقول بوضوح تام: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا).
وقال “الصادق”: (أيضاً هناك كثير من الأحاديث فهم الناس منها أنها كرست لدونية المرأة مثلاً (النساء ناقصات عقل ودين)، ومهما كان السند لهذه الأحاديث فهي – حسب فهم هؤلاء البعض – تتناقض مع الآيات القرآنية في المساواة.. وتطرق بعضهم إلى (كيد النساء) لكن هناك أيضاً كيد الرجال، كما في قصة سيدنا “يوسف” التي تبين كيف أن كيد إخوته أكبر من كيد النساء.. لذا فالكيد ظاهرة إنسانية. ويضيف الإمام: والعنف ضد المرأة أنواع: حسي، بدني ولفظي، إضافة إلى الفهم غير الصحيح لمقاصد الشريعة الإسلامية والتربية الإسلامية.. وأيضاً الموروث الثقافي السوداني يتسم بمفاهيم قاسية على المرأة، منها فترة قضائها (العدة) عقب وفاة زوجها.. حيث تعامل كأسير، وتتم (معاقبتها) بعدد من الوسائل كأن تلبس ثياباً معينة وتدير وجهها إلى الحائط، وأشياء كثيرة ليست لها علاقة بالدين.. ولكنها جزء من ثقافة ذكورية في السودان، تعبر – بصورة أغلظ – عن الفهم الديني الخاطئ، وتعزز العنف ضد المرأة.
} (المرأة كان فأس ما بتقطع الرأس)!!
وعرج “الصادق المهدي” في معرض حديثه إلى ما كفلته الشريعة للمرأة بقوله: (الآن تحدث في السودان ظواهر شاذة، مثلاً عندما تقرر الشابة فسخ خطوبتها من الرجل.. فإنه قد يلجأ إلى قتلها أو تشويهها بماء النار.. كما أن هناك أشخاصاً عندما يتولون أمر تزويج الفتاة يقولون: (زوجت جبرتي)، بينما تحمي الشريعة ملكية المرأة بمالها وجمالها، وهي من باب أولى تملك حرية التصرف، لكنها كثيراً ما تجبر.. وهذا أحد وجوه العنف المادي والمعنوي.
وافترض الأمام أن الرجولة لا تعني استخدام القوة، إذ لا بد من ضوابط أخلاقية لنقل سلوك الرجال من الذكورية المبنية على التفاوت.. إلى القوة المبنية على الأخلاق، مع مراعاة الحق الديني.. ولإزالة هذه المفاهيم المتعلقة بالدونية لا بد من (تبييض) الثقافة السودانية من هذه المفاهيم، التي تتمثل في مقولة (المرأة كان فأس ما بتقطع رأس).. فالمرأة مواطنة لديها حقوق وعليها واجبات.
وختم “المهدي” حديثه لـ (المجهر) بقوله: (هذه الأسباب مجتمعة تبين أننا أمام ظاهرة كبيرة وخطيرة نحتاج إلى صحوة ثقافية لإزالتها، وضرورة التعامل معها كقضية متعددة الأسباب).
} العادات الضارة
العادات الضارة تعتبر أيضاً من أساليب العنف ضد المرأة.. وفي هذا المنحى قالت مديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل د. “عطيات مصطفى عبد الحميد” لـ (المجهر): ختان الإناث يعد أبرز العادات الضارة التي أصبحت متأصلة في المجتمعات السودانية والأفريقية.. إذ يتم في سن مبكرة استئصال جزء من الجهاز التناسلي الخارجي للبنات، وهو جزء حساس توجد به أوعية دموية تتصل مع الأوعية الدموية الداخلية، وقد تفضي هذه العملية إلى نزيف حاد تصل مخاطره للوفاة.. كما أن هذه العملية قد تجرى خارج الإطار الصحي، ومن مخاطرها أيضاً الإصابة بمرض (التيتانوس)، فضلاً عن أن العملية تتسبب في تضييق مجرى البول والمهبل، فيؤدي بدوره لمنع التبول ودم الحيض من الخروج بطريقة طبيعية.. وكل هذا يتسبب في التهابات حادة وقفل أنابيب الرحم وحدوث عقم دائم، في حالات كثيرة.
} مشاكل مركبة
ومن المشاكل الصحية المتناسلة عن الختان – كما أفادت د. “عطيات” – حدوث التهاب وتكوين أكياس في مكان الجرح، لأن هذا الموقع حساس، وعلى المدى البعيد يؤدي إلى ضيق المخرج في الولادة وحدوث (الناسور البولي)، وهو مرض يتسبب في (السلس البولي) المستمر، مما يحطم حياة المرأة الصحية والزوجية والأسرية، وينتهي بها إلى تجنب المجتمع لها.. كما ان تكلفة علاج (الناسور البولي) عالية، ونسبة نجاح التعافي منه ضعيفة.
كما أن من مظاهر العنف (من الناحية النفسية والأسرية) – والحديث لا يزال لـ “عطيات” – تزويج الطفلة الذي يؤدي إلى عدم الاستقرار الأسري بسبب عدم التكافؤ الاجتماعي، وذلك يزيد من حالات الطلاق.
} خلل القوة!!
وأشارت د. “عطيات” إلى أن العنف الأسري لا يقع بالضرورة بين الزوجين فقط، بل يمكن أن يشمل أي فرد من أفراد الأسرة، لأنه يبنى على أساس العلاقات الأسرية، وأسبابه في العالم أجمع لا تخرج عن اثنين: الأول خلل القوة، أي أن الرجل يعدّ نفسه الأقوى، وذلك لأن المرأة دائماً تشعر أمامه بالدونية، مع أنها هي الأقوى لأنها سبب الحياة واستمرار البشرية.. والثاني هو عدم التوافق الاجتماعي وفقدان الاتزان داخل الأسرة.
وأرجعت د. “عطيات” حدوث الخلل وانتشار وتطور العنف الأسري إلى النظرة التساهلية من قبل المجتمع وفقدان الحماية داخل المنزل بعدم التواصل الاجتماعي بين الأسر نتيجة لغياب دور (الحبوبة) الذي (يوازن) الأسرة بتصديها للمشاكل مستخدمة حكمتها وتأثيرها.. ومن الأسباب أيضاً جهل كثير من المرأة بالقانون.
وكشفت د. “عطيات” عن أن وحدتها أجرت بحثاً عن (العنف النوعي) في ولاية الخرطوم، فحصد (الضرب) أعلى النسب، يليه العنف اللفظي مثل الإهانة والإساءة. وبينت الدراسة أن أغلب حالات العنف هي التي تحدث بين الأزواج.
} مقترح للحل
ولفتت مدير وحدة مكافحة العنف إلى أن محاكم ولاية الخرطوم سجلت في العام 2009م أكثر من (27) ألف حالة طلاق لعدم التكافؤ الاجتماعي الذي حرّض على العنف، لكنها أكدت أنه لا يمكن تقديم رصد دقيق لحالات العنف الأسري في السودان، لتستر الكثيرين عليه، غير أن مستوى الحالات الموجودة ينبئ بانخفاضه بنسب قليلة نتيجة التطور الثقافي. ودعت د. “عطيات” إلى الاقتداء بنهج سيدنا “عمر ابن الخطاب” الذي فتح دُوراً تضم نساء كبيرات في السن وذوات خبرة ودراية بأمور الحياة الزوجية، للمساهمة في حل مشاكل الأزواج قبل أن تصل إلى التعنيف والضرب ومن ثم الطلاق، مؤكدة أن هذه الدُور تساهم في إعادة (80%) من النساء إلى أسرهن، موضحة أن ذلك يوازي الدور الذي تلعبه دُور إعادة التأهيل التي تتحدث عنها الأمم المتحدة.
صحيفة المجهر السياسي
[/JUSTIFY]