وبدون شك وقبل أن نخوض فى المقال المثير حقاً للشفقة فإن من الواضح أن لجوء هذه الصحفية للخوض فى الشأن السياسي الداخلي للسودان -فى ظل الأوضاع المؤسفة والمحزنة التى تعيشها الشقيقة مصر- هو فى حد ذاته بمثابة هروب واضح من مواجهة الواقع الأليم هناك.
هي شبيهة بالطرفة الشهيرة التى تتحدث عن أن طالباً بالمرحلة الثانوية استذكر جيداً سياسة المستشار الألماني الشهير (بسمارك) الخارجية التى كانت مقررة فى مادة التاريخ ولكنه -لسوء حظه- فوجئ بأن السؤال الوارد فى الامتحان يطلب منه الكتابة عن سياسة بسمارك الداخلية فما كان منه إلا أن قال إنه وقبل الخوض فى سياسة بسمارك الداخلية لابد من معرفة سياسته الخارجية!
وربما زادت هذه الصحفية على مقولة الطالب المذكور أنها فى الواقع لم تكن (مستذكرة) لا سياسة بسمارك الداخلية ولا الخارجية إنما فضلت المغامرة بمقال مطول لا لون له ولا رائحة!
ولعل الأمر المؤسف عادة فيما يخص طريقة تعاطي الصحافة المصرية والإعلام المصري عموماً أنه سرعان ما يكشف عن (جهل) مبكي ومضحك بالشأن السوداني وليس بعيداً عن الأذهان مقولة الصحفي المصري الكبير (محمد حسنين هيكل) فى حديث له عن أن الإمام الهادي المهدي وعقب ما جرى فى الجزيرة أبا هرب الى منطقة كسلا بشرق السودان ومات مسموماً بمانجو!
الصحفية المصرية قالت إن الدعوة للحوار الوطني والوثبة ليست سوى رجع صدى لما جرى من سقوط للإخوان المسلمين فى مصر، ولم تنسَ الإشارة الى أن التغيير الذي جرى في يونيو 89 كان خدعة للشعب وأن الترابي لم يقبل الحوار مع البشير إلا بعد إزاحة نائبه الأول على عثمان وأن البشير يتلاعب بالجميع ويقصيهم واحداً بعد الآخر وربما ينفرد بالسلطة لمواجهة مهددين أحدهما داخلي يتمثل في (المعارضة السياسية المحلية) والسخط الشعبي؛ والآخر خارجي يتمثل في ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية، وأن التحالف المرتقب بين الإسلاميين فى السودان لن يعدو كونه (زواج متعة)!
ونحن هنا رغم عدم موضوعية الطرح إلا أننا ومن باب الأمانة السياسية نتصدى للمقال، فقد بدا واضحاً أن ما طرحته الصحفية متأثر بالأوضاع في مصر فهي تنظر (بمنظار مصري) لأن السلطة الحاكمة الآن فى السودان ليست هي الأخوان المسلمين، هناك حزب المؤتمر الوطني ومعه أكثر من 17 حزباً سياسياً مسجلاً يشاركونه السلطة؛ كما أن هناك تناغم واحترام متبادل بين أجزاء الدولة المختلفة فى السودان -كلٌ فى حدود مسئولياته- إذ ليست هناك (مواجهات سياسية) بين القضاء والرئاسة، وليست هناك (خصومة) بين (نادي القضاة) والاتحادية؛ كما ليس هناك (تربص) و (تخوين) بين المؤسسة العسكرية وجهاز الدولة ورأسها التنفيذي!
هذه التعقيدات ليست موجودة فى السودان! أما دعوة الحوار التى نادى بها الرئيس فهي ليست موجهة فقط للدكتور الترابي، فهناك حزب الأمة القومي بزعامة السيد الصادق المهدي، ونعتقد أن الصحفية المحترمة سمعت به وهناك الاتحادي الديمقراطي بزعامة الميرغني وعدد مقدر من الأحزاب السودانية ولهذا من الغريب أن يتركز كل نظر الصحفية المحترمة فى الدكتور الترابي!
وإذا كان كل الهدف هم ضم الدكتور الترابي، ما الذى كان يمنع الرئيس البشير أن يجلس معه منفرداً ويتفقا بإتفاق ثنائي مهما كانت شروطه؟
أما حديثها عن المهددات الداخلية والخارجية فهي للأسف الشديد جرياً على ذات نهج الأستاذ هيكل وحكاية المانجو المسمومة فى كسلا، إذ أنّ السودان قضى 25 عاماً وهو يواجه هذه المهددات والعمل المسلح والمؤامرات الأجنبية، فإن كانت هذه مهددات مخيفة وقادرة على إلحاق الأضرار بالسودان كيف إذن سار كل تلك المسيرة الطويلة الشاقة؟
ولعل المحزن فى الأمر أن الصحفية تعتقد أن محكمة الجنايات الدولية مهدداً خارجياً! مع أن هذه المحكمة عُرفت للقاصي والداني أنها محض محكمة سياسية لملاحقة الأفارقة ومن الغريب أن صحفية (افريقية) ولو مجازاً تعتقد أن هذه المحكمة تخيف السودانيين! بل إن الأغرب أن الحكومة المصرية الحالية وعلى مرأى ومسمع من العالم كله وفى شهر رمضان الكريم أسقطت حوالي 6 ألف قتيل فى ميدان رابعة العدوية وأنحاء متفرقة من مصر دون أدنى رحمة وبلا مبررات منطقية أو غير منطقية ومع ذلك لم يخض أي صحفي سوداني فيها حتى الآن احتراماً لعلاقات الجوار والأخوة فى هذه الجرائم النكراء!
إن قضية التئام المكونات الوطنية فى السودان عبر الحوار هي خطوة ايجابية حيث لا غالب ولا مغلوب من كافة القوى السياسية السودانية فكيف جاز (لمن هو خارج السياق) أن يقلل من عمل وطني كهذا؟ كيف لصحافة دولة شقيقة أن تقلل وتسخر من حالة إلتئام وطني جادة تجري فى بلد شقيق لصالح الاستقرار والذي هو (عمق استراتيجي) للشقيقة مصر؟
إنها فعلاً واحدة من غرائب الإعلام المصري الذي فقد شهية الكلام عن أوضاع بلاده الداخلية و (ندم) أيما ندم على ثورته الربيعية التى تحولت الى أمطار صيفية لاهبة ويبحث دون جدوى عن وسيلة يرفه بها عن نفسه على حساب الآخرين!
سودان سفاري
ع.ش