تأتي هذه التمنيات رغم أن فئة ليست بالقليلة من السودانيين، في الخرطوم على الأقل، لم تحفل قط بما يدور في الساحة السياسية، بل تبدو الصورة الذهنية للسياسة مهزوزة لديهم، أو معدومة في مرات كثيرة، مثل الموظفة التي تعمل في مكتبة عامة لبيع الكتب الثقافية العامة. قالت الموظفة وسط تهكمها: “هل حقاً توجد مفاوضات؟” وأردفت بأنها بعيدة تماماً عما يجري في الساحة السياسية، ولم يلفت انتباه الخمسينية، التي فضلت حجب اسمها ورفضت التصوير، أداء الأحزاب السياسية المعلن بشأن العملية السياسية، ولم تقف على دور للأحزاب في عملية تبصير الجماهير بما يدور في قضايا الشأن العام.
وكان 69 حزباً سياسيا (زادت في ما بعد) قد نالوا قبل خمس سنوات الاعتراف والمشروعية من مجلس شوؤن الأحزاب من أجل ممارسة العمل السياسي ومخاطبة الجماهير، وهو أعلى عدد لأحزاب تحوزه دولة واحدة، باستثناء تونس التي سجلت نحو 120 حزبا بعد انطلاق ثورتها في 2011م، وتأتي بعد السودان مصر التي تحوز على أكثر من 30 حزبا سياسيا. لكن لا يبدو أن الأحزاب السياسية في السودان خاطبت الجماهير بفاعلية، وذلك برأي الشاب محمد عبيد الذي استطلعته (اليوم التالي) أمس الخميس حول الصورة الذهنية التي كونها عن الحراك السياسي الحالي. ويرى عبيد، الذي لا يقرأ الصحف لاعتبارات تخصه، أن الأحزاب غائبة وأصبحت الحزبية محض مهنة بالنسبة للقادة السياسيين الذين يسميهم “الرؤوس الكبيرة”. ويصفهم بأنهم أس البلاء بالنسبة للسودان، سواء كانوا في المعارضة أو الحكومة. ويقول عبيد إن الحكومة قدمت تنازلات كبيرة، في الداخل والخارج، من أجل الوفاق الوطني، لكن المعارضة، برأيه، تعارض من أجل المعارضة فقط.
لا يمكن لرأي عبيد أن يكون رأيا صحيحا ومكتمل الحقيقة، ففي كل الأحوال تشتكي الأحزاب المعارضة من قيود تفرض عليها، وتطرح الآن شروطاً لا ترى أن الحوار سيكون مثمراً قبل تلبيتها، إذ يقول الباشمهندس صديق يوسف، الناطق باسم تحالف قوى الإجماع الوطني المعارض، إن قضيتي الحرب والمشاركة في الانتخابات، المطروحتين في خطاب الرئيس البشير للحوار، من القضايا التي تستوجب الحوار، وقال إن إيقاف الحرب حق مكفول لرئيس الجمهورية، ويمكن أن يوقفها بقرار رئاسي متى أراد، وكذلك تهيئة المناخ للحريات وإزالة القوانين المتعارضة مع الدستور وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وإلغاء القرارت الاقتصادية التي طبقت في سبتمبر من العام الماضي، ويسمي كل ذلك “متطلبات الحوار” المفضي إلى مناقشة بقية القضايا السودانية وحلحلتها.
وقريبا من هذا الموقف، مضى حزب الأمة القومي الذي قبل الحوار مع الحكومة، وذكر في بيان صادر من اجتماع مكتبه السياسي أن إنجاح الحوار يستوجب حزمة متطلبات لبناء الثقة مع الحكومة تشمل وقف الحرب، وفتح ممرات آمنة للإغاثة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والعفو عن المحكومين في هبة سبتمبر 2013م، وإطلاق الحريات العامة، بما في ذلك تجميد النصوص القانونية المقيدة للحريات والسماح للصحف الموقوفة بالصدور ووقف الرقابة على الصحف.
بينما تتمسك الحركة الشعبية التي تفاوض الحكومة في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا بضرورة فتح أجندة التفاوض ليشمل جميع مناطق السودان الملتهبة، وألا يتقاصر على المنطقتين، جنوب كردفان والنيل الأزرق.
لا يتابع محمد عبد المجيد، مجريات الأحداث بشكل لصيق، نظرا لطبيعة مهنته كسائق عربة أجرة، لكنه يتمنى من كلا الطرفين، الحركة الشعبية والحكومة، تقديم مزيد من التنازلات لصالح عملية السلام، ولا يعرف عبد المجيد من هو ثامبو امبيكي، رئيس الآلية الثلاثية رفيعة المستوى، ولا دوره في الحل السياسي السوداني، ويرجح إمكانية حل سياسي داخلي يتفق عليه السودانيون، ولو بحل الحكومة الحالية.
ثمة مواطنون سياسيون غير حزبيين، وهم على العكس من عبيد، يتابعون الصحف بشغف لمعرفة مجريات الأحداث السياسية، منهم عبد الرحيم البصير. يقول البصير إن الحوار المطروح في الساحة السياسية منقوص، لكونه لم يشمل قطاعات واسعة من المجتمع المعني بمخرجات العملية السياسية… ويقترح على الحكومة الانفتاح بسعة على الولايات القريبة والبعيدة من الخرطوم، لإشراك مواطنيها في حلول مشكلات بلادهم، ويقول إن من مساوئ الحوار الذي تطرحه الحكومة أنه محصور في نخب الخرطوم، رغم أن النخب لا يمثلون الكل على الإطلاق.
وبالفعل، رغم إن العملية السياسية التي تطرحها الحكومة، وتشير فيها إلى عملية الإصلاح الشامل، إلا أنها لا تدخل في إصلاح سياسي حقيقي، يستند على التعريف التقليدي لمفهوم الدولة، الذي هو، إقليم وناس وسلطة سياسية نافذة. ومجرد غض الطرف عن المواطنين ومشاركتهم في العملية السياسية المفضية إلى الحل، يعد ذلك ضرباً لمفهوم الدولة في الصميم.
مثلاً، بالنسبة لـعوض الله الكناني، وهذا هو اسمه المستعار نظرا لوظيفته الحساسة، فإن الحوار السياسي الحالي شأن يخص نخبا ذات علاقات متشابكة ومصالح مشتركة، ويقول الكناني وهو يتحدث لـ(اليوم التالي) أمس الخميس إن هذه النخب غير مهتمة بما يتم في المستويات الدنيا، ومستفيدة من الأوضاع الحالية المضطربة، ويرى أنها تحقق بها توازنات مقصودة، حتى في الحرب نفسها.
وعندما يتعلق الأمر بالحرب فإن الموظفة وعبيد والبصير وعبد المجيد، يلعنونها ويدعمون إيقافها بكافة السبل، لأنها ستجعل الصيف أكثر سخونة، ومارس أكثر كارثية .
صحيفة اليوم التالي
يوسف حمد
ع.ش